يقولون في أمريكا: إن «الدين الوحيد المُجمع عليه هناك هو عبادة إسرائيل» (cult of Israel)، حسبما تقول الكاتبة الأمريكية غريس هالسيل، وهي صاحبة الكتاب الشهير «الفكر التوراتي والحرب النووية: المبشرون الإنجيليون على طريق القيامة الذرية» الذي يشرح أفكار التيار الإنجيلي الذي يسمى «الصهيونية المسيحية» الداعم لـ«إسرائيل» ويؤمن بضرورة تجمع يهود العالم في «إسرائيل».
وفيه تحدثت الكاتبة عن التحريض على الحرب المقدسة التي يقوم بها هذا التيار، وزواج المصالح، ولماذا عقدت «إسرائيل» حلفاً مع اليمين المسيحي الجديد، وكيف تسيطر على القرار الأمريكي عبر مزج السياسة بالدين.
وفي عام 1991م ظهر الكاتب الأمريكي الشهير وكبير مستشار رؤساء سابقين وكاتب خطابات الرئيس السابق نيكسون، بات بوكانان، في برنامج تلفزيوني، ليلخص وضع بلاده التابع لـ«إسرائيل» بقوله: إن الكونغرس أرض محتلة من قبل «إسرائيل»، قال: إن لجنة الشؤون العامة الأمريكية «الإسرائيلية» (لوبي أيباك) مكرسة لاستنزاف موارد أمريكا لصالح «إسرائيل» ضد المصلحة الوطنية، وإن هؤلاء الذين يمثلون التيار المسيحي الصهيوني الإنجيلي المحافظ -من نواب الكونغرس وغيرهم- يسعون إلى تجنيد الدم الأمريكي لكي يصبح العالم آمناً لـ«إسرائيل».
وعقب ظهور نواب الكونغرس وهم يصفقون لنتنياهو بحرارة وهو يتباهى بقتل شعب فلسطين، ويعتبر غير اليهود برابرة غير متحضرين، استحضر كثير من الأمريكيين الغاضبين على استقبال بلادهم لنتنياهو هذه المقولة لينبهوا لحقيقة أن «إسرائيل» تحتل الكونغرس وتسيطر عليه.
نتنياهو ألقي محاضرة على المشرعين الأمريكيين واتهم من يعترض على ما يجري في غزة بأنه متعاطف مع «حماس»، وأهان الناشطين والمتظاهرين الذين يمارسون حقهم الدستوري ووصفهم بأنهم عملاء يتلقون أموالاً من إيران هم والطلاب الذين احتجوا على المجازر «الإسرائيلية» في غزة! وأثبت أمام سيرك تصفيق وتهليل النواب وأعضاء مجلس الشيوخ المقولة التي كان يرددها المعلق الأمريكي ومرشح الرئاسة بات بوكانان أن الكونغرس الأمريكي أرض أمريكية محتلة من «إسرائيل».
كانت مفارقة غريبة أن يسمح نواب الكونغرس الأمريكي لزعيم أجنبي (نتنياهو) أن يهين شعبهم ويصف المتظاهرين منهم ضده وطلاب الجامعات بأنهم حمقي وعملاء لإيران، بل ويصفقون للإبادة الجماعية التي تحدث عنها، فحفاوة النواب بكلمة نتنياهو مثلت أسوأ دعاية سوداء ضد صورة الولايات المتحدة ونظامها السياسي، حيث أظهرتها مشارِكة في الإبادة الصهيونية لشعب غزة، ودليل واضح أمام العالم أن «إسرائيل» هي أمريكا، أو أن الأخيرة محتلة من «إسرائيل»، والصهاينة يتحكمون في قرارات الدولة العظمي.
ظهور أعضاء الكونغرس الأمريكي ومجرم الحرب نتنياهو يحركهم ويتلاعب بهم وهم يصفقون له بحرارة بينما هو يهين بلدهم وشعبهم وجامعاتهم، يكشف تجنيد اللوبي الصهيوني (أيباك) لهم ليصلوا لمقاعدهم في الكونغرس، حتى إن هذا اللوبي الصهيوني دفع 15 مليون دولار في دائرة صغيرة في نيويورك لكي يسقط نائباً يعادي «إسرائيل» هو جمال بومان.
التصفيق لنتنياهو قرابة 50 مرة من نواب بلد يدعي الديمقراطية والعدالة بينما الاحتلال يقتل الآلاف منذ 10 أشهر في سلسلة مجازر يكشف حجم التواطؤ الأمريكي مع جرائم الاحتلال وازدواجية الحديث عن العدالة والحقوق لدى مشرعي الكونغرس، فقد صفق له النواب الحاضرون 49 مرة كما لو كانوا يتقاضون أجرًا مقابل ذلك، رغم غياب 86 نائباً عن الجلسة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ، لكن تم إحضار «كومبارس» وضيوف آخرين محل الغائبين للتصفيق لنتنياهو.
وقاطع 112 نائباً من عدد النواب الديمقراطيين في مجلس النواب (عددهم 212) خطاب نتنياهو في الكونغرس، فيما قاطع الخطاب من نواب الحزب الديمقراطي بمجلس الشيوخ 24 نائباً من أصل 51؛ أي أن ما يقرب من نصف النواب الديمقراطيين قاموا بمقاطعة خطاب مجرم الحرب نتنياهو، بحسب مراسل موقع «أكسيوس» الأمريكي، في 24 يوليو 2024.
ووصف محللون ونواب رفضوا خطاب نتنياهو قول نتنياهو: إن إيران تمول المتظاهرين خارج الكونغرس الآن، وقد أصبحوا لعبة في يد طهران بأنه إهانة للشعب الأمريكي الذي أوصل هؤلاء النواب الذين صفقوا له لمقاعدهم، وقوله (نتنياهو): إننا أمام صراع بين البربرية والحضارات ودعوته لتحالف جديد نحن على رأسه في الشرق الأوسط، أود أن أسميه «تحالف إبراهيم»، يشير لخطط الاحتلال وأمريكا المستقبلية بشأن استمرار فرض خطط التطبيع الإبراهيمي على المنطقة العربية.
أيضاً جاء اجتماع نتنياهو بزعماء الطوائف المسيحية الإنجيلية في واشنطن قبل أن يلقي خطابه وشكرهم على دعمهم المستمر، يبين دور التيار المسيحي الصهيوني في ترتيب الزيارة، وأظهر العلاقة بين هذا تيار الصهيونية المسيحية ودولة الاحتلال ودعمه لـ«إسرائيل» بالمعونات المختلفة.
كيف يتحكمون في الكونغرس؟
تشير مراكز أبحاث عالمية إلى أن من يحكم أمريكا هما اللوبي اليهودي الأمريكي الصهيوني، والمجمع الصناعي العسكري الذي يستحوذ على إنتاج وبيع السلاح، وكلاهما يشتري السياسيين والحكم لتحقيق مصالحهما، ويسيطر عليهما اليهود.
واللوبي الصهيوني هو تحالف فضفاض يتكون من مجموعة من الهيئات والجماعات والمؤسسات والشخصيات العاملة في الولايات المتحدة، الداعمة لـ«إسرائيل»، ومن أشهرها اللجنة الأمريكية «الإسرائيلية» للشؤون العامة (أيباك)، ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى، ورابطة مكافحة التشهير، والمجموعات المسيحية الصهيونية، مثل المسيحيون المتحدون من أجل «إسرائيل».
هذه الهيمنة الصهيونية تظهر بوضوح خلال انتخابات الرئاسة والكونغرس عبر دفع أموال ضخمة لإنجاح المؤيدين لـ«إسرائيل» وإسقاط من لا يدعمونها، بغرض التحكم في مراكز صنع القرار، حيث يدفع اللوبي الصهيوني المشكَّل من عدة منظمات ومجموعات أشهرها «أيباك» ملايين الدولار في انتخابات الكونغرس للتحكم فيمن يصعد لعضوية مجلس النواب والشيوخ.
وظل اللوبي الصهيوني يسيطر تاريخياً على القرار في البيت الأبيض والكونغرس؛ ما جعل «إسرائيل» الولاية الأمريكية رقم (51) التي تعتبر أمريكا الدفاع عنها جزءاً من دفاعها عن نفسها، وتفضل مصالحها على مصالح الأمريكيين.
ويقول جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو: إن العلاقة بين أمريكا و«إسرائيل» ليست إستراتيجية ولا أخلاقية، ولا ناتجة عن مواءمات سياسية أو مصالح مشتركة لأمريكا، ولكنها ناتجة عن ضغط اللوبي اليهودي الأمريكي بقسوة على الساسة الأمريكيين، وتفضيله مصالح «إسرائيل» على أمريكا، وحذر صُناع القرار في أمريكا من أن الكيان الصهيوني سيضُر بمصالح الولايات المتحدة ويجعل العالم يعاديها بسبب دعمها لمصالح «إسرائيل» العنصرية في العالم.
وتتغنى «أيباك» على موقعها الرسمي بأنها دعمت 365 مرشحاً ديمقراطياً وجمهورياً مؤيداً لـ«إسرائيل» في عام 2022م بأكثر من 17 مليون دولار، كدعم مباشر، وكانت من بين أكبر 20 مانحاً في الانتخابات بتبرعات مالية ضخمة، وزعمت أنها أسهمت في فوز 98% من المرشحين المدعومين من «أيباك» في الانتخابات بينما ساهمت في هزيمة 13 مرشحاً لا يؤيدون «إسرائيل».
وتعود جذور نفوذ اللوبي الصهيوني إلى العائلات اليهودية، التي تعد من أكثر العائلات ثراءً في الولايات المتحدة، وكان حضورها في الولايات المتحدة قبل مؤتمر بازل، وقبل أن تمتلك الولايات المتحدة رؤية أو سياسة واضحة تجاه الشرق الأوسط.
وفي الانتخابات التمهيدية الأخيرة، في يونيو 2024م، تكتل اللوبي الصهيوني ضد نواب كونغرس دعموا غزة وانتقدوا الإبادة «الإسرائيلية»، وأغرق الانتخابات بالأموال لإسقاطهم، ما أظهر أنه لا يزال يحكم أمريكا، وتدفقت ملايين الدولارات على السباق من جانب اللوبي الصهيوني والمليارديرات اليهود الجمهوريين والديمقراطيين معاً، لإسقاط نواب داعمين لغزة، ويهاجمون الإبادة الجماعية للفلسطينيين.
عوائد تحكمهم في أمريكا
تعود على الدولة الصهيونية العديد من المكاسب بفعل سيطرتها على أمريك؛ مالياً وعسكرياً وتكنولوجياً وإستراتيجياً.
فعلي سبيل المثال، تعد «إسرائيل» أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ووفقاً للمؤشرات الرسمية الأمريكية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدمة من الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» فيما بين عامي 1946 و2023م نحو 158.6 مليار دولار.
وبحسب بيانات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فإن حجم المساعدات أكبر بكثير مما جاء في التقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات الأمريكية الملتزم بها لـ«إسرائيل» في الفترة ذاتها نحو 260 مليار دولار، ومعظمها تذهب إلى القطاع العسكري.
ويعكس حجم الدعم السياسي والمساعدات الخارجية الأمريكية لـ«إسرائيل» مقدار الاهتمام الذي توليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتثبيت وجود دولة الاحتلال في الشرق الأوسط، ودور اليهود في القرار الأمريكي أو احتلالهم للكونجرس وتحكمهم في قراراته، حتى إن رئيس مجلس النواب الحالي هدد الرئيس بايدن بالمحاكمة لأنه عطل صفقة قنابل أعماق ضخمة لـ«إسرائيل» وهدد أمن الدولة العبرية!