لمّا بعث الله تعالى رسولَه بالرسالة الخاتمة للناس، جاء الأمر التكليفي بـلفظتي «لصَّدْعِ» و«الإعراض»: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحِجْـر: 94)، فلم يكن الشأن مجرد الجَهْر بالدعوة، كما ساد في أدبيات السيرة والتاريخ، بل الصَّدْع بالدعوة، والصَّدْعُ في اللغة: «الفرق بين شيئين، ويُستعمل في معنى الشَّق، كمــا لو تَصَدَّع الشيءُ أي تَشَقق، وعندي صُــدَاع: أي كأنّ رأسِيَ فيها تَشَقّق» (لسان العرب)، وورد في تفسير الصدع فــــي الآية الكريمة: «شُقَّ جَمَاعَتَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ»، و«فَرِّقِ الْقَوْلَ فِيهِمْ مُجْتَمِعِينَ وَفُرَادَى».
والمستفاد من ذلك أنّ الحق حين أَنَزله الله الحق من السماء، لم يَنزِل ليجمع الناس، بل لِيَفْرُقَ بينهم! ليَفْرُقَ بين الناس على أساس التوحيد، ويَفْرُقَ بين أعمالهم على أساس الإيمان، فتجد نوع الفُرقـان الأول في القرآن: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُــونَ) (الرّوم: 43)، والمقصود أنّ الناس يَتَصدَّعون يوم القيامة أي يتفرقون فرقتين: المؤمنين والكافرين؛ (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 141)؛ (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) (التوبة: 43).
إلا أن الغفلة اشتدت عن مصطلح الفرقان ومقتضاه من إدراك خطر الفارق بين الكفر والإيمان؛ ولذلك يكون موقف الكفار المناصرين للمسلمين وقضاياهم أخطر من موقف المحاربين صراحة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، إذ يلتبس على المسلم الحد الذي تنتهي عنده المعاملة أو الود المشروع، ويبدأ ما فوق ذلك ما لا يرضاه الله تعالى من عبده المؤمن.
من هو الشهيد شرعًا؟
الشهيد في التصور الشرعي هو الذي قُتل في سبيل الله تعالى شاهدًا أي مُظهِرًا للحق على الباطل في معركة جهاد بينهما، ويليه الأنواع المذكورة في الأحاديث، مثل الغريق والمبطون (أي من مات بداء في بطنه)، أو من مات دفاعًا عن العِرض والمال والأهل، فهذه الأنواع تعتبر ضمن مرتبة الشهادة الشرعية لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أدخلها في سبيل الله تعالى، خلاف هذا يمكن أن يسمّى غير المسلم شهيدًا من حيث المعنى اللغوي للفظة فحسب، أي كونه شاهدًا على حقانية ما قُتِل في سبيله.
لكن المشكلة أن المسلمين حين يطلقون اللفظة لا يستحضرون، بل وقد لا يدركون ابتداء، خطر الفارق العقدي بين دافع الموت في سبيل الله تعالى وحده، ودافع الموت في سبيل قضية أو غيرها مما اقتنع المقتول أنه مستحق أن يفديه بنفسه، فالثاني إذا صدر من كافر فهو استدامة لكفره ليس إلا، وإذا صدر من مسلم فينطوي على شرك بالله تعالى، إذ إن نصرة الحق في التصور الشرعي، لا تكون النصرة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام إلا على أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبديهي أن مدخل ذلك هو الإسلام، ومن ثمّ على المسلم أن يفرّق بين تقدير موقف غير المسلم واعتباره نصرة بالمعنى الشرعي؛ ذلك أن تأييد غير المسلم لأي قضية سيكون بدافع قناعته بعدالتها أو حقانيتها وفق دينه وتصوره الوجودي (وهو الإنسانية غالبًا)، وليس من منطلق نصرة المسلمين من حيث هم مسلمون، ولا نصرة الإسلام ذاته من حيث هو الدين الحق (وإلا لآمن به) ولا إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
ثم إن دوافع مناصرة الحق عند غير المسلمين ليست إلا أثر بقية فطرة الحق فيهم، فهي تأكيد علو صوت الحق في فطرة النفس مهما نعق الباطل، ورسوخ صبغة الله تعالى في تمييز الظلم والمظالم مهما حادت النفوس، وبالتالي لا يُنسَب فضلُ مناصرةِ الحق إلا لله تعالى، فهو الذي يستعمل من شاء في نصرة دينه، وفي الحديث: «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»(1)، فتأييد الدين بالفاجر لا يرفع عنه فجره ولا يبرر إسباغ فضل الإسلام عليه، وإنما ما تقرر في الشرع أن مناصر الحق وفاعل الخيرات من غير المسلمين يوفّى المكتوب من جزائه في الدنيا، لكن ليس له في الآخرة إلا النار إذا مات على كفره، إلا أن يشاء الله تعالى شيئًا.
التجرّؤ على الترحّم
وأما التطوع بالترحم على من مات كافرًا، أيًّا يكن سبب موته، بقول: «الله يرحمه» وما في معناها، واعتبار هذا الدعاء مجاملة عابرة لا بأس في إطلاقها والسلام مجاملة للخلق، فمصيبة واجتراء على حرمة جناب الله تعالى وحرمة حكمه وحدوده؛ إذ الرحمة رحمته تعالى، والخلق خلقه، والأمر أمره، وقد قضى بين الجميع بحكمه؛ فكيف بمخلوق يجترئ عليه تعالى فيطلب منه ما حرّم الله طلبه في موقف معيّن، كأنه هو صاحب الرحمة وموزّعها بيمينه، أو كأنه أرأف بالخلق من خالقهم؟! وتأمل تعاظم المصيبة إذا كان الاجتراء ذاك صادرًا من مؤمن بالله تعالى، وعلى ذلك تكون مجاملة الخلق أعلى اعتبارًا عنده من حرمة جناب ربه الذي آمن به وحدوده؟!
ودوننا الأنبياء عليهم السلام، أكرم الخلق على الله تعالى، وأكمل الخلق في الأدب مع الله تعالى والإذعان لحقيقة أنه ليس للعبد من الأمر شيء، وأن الأمر كله حقيقة وحقًّا لله تعالى، كلهم ابتلوا في أولادهم وذويهم بمختلف أنواع البلاء، ومنه أن يختم لبعضهم على الكفر، فلم يأت منهم من يترحم على كافر بدعوى قرابته، أو يسأل الله تعالى استثناء مراعاة لخاطره!
تأمل –مثلًا- النبي صلى الله عليه وسلم، أكمل الخلق وأكمل الأنبياء عليهم السلام، دعا عمّه أبا طالب على فراش الموت ليدرك الإسلام: «أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»(2)، فتأمل إحكام العبارة، إذا بدون موافقة الإذن الإلهي ودخول حماه لا يحق للداعي أن يسأل ما لم يأذن الله تعالى بسؤاله، وعلى محبته عليه الصلاة والسلام لعمّه الذي آواه وحماه، مات أبو طالب على الكفر، فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ»؛ فَنَزَلَ قول الله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة: 113)، ثم نزل قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
وقد كان الله تعالى قادرًا أن يهدي أبا طالب إكرامًا لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن مشيئته تعالى جرت بغير ذلك وله سبحانه الحُكم والحكمة، فمحلّ الامتحان ليس قدرة الله تعالى وإنما محل الامتحان هو تسليم العبد لمشيئة الله تعالى مسلِّمًا لله بحُكمه وموقنًا بحكمته سواء تبدّت له أم لا، وسواء وافقت هواه أم لا.
ومن ثم، فالنُّصرة الحقة والحقيقية التي يرضاها الله من الأمة المسلمة وينصرها وفاقًا لها، التي بها تكون قَومة الأمة المسلمة من رقدتها بين الأمم، هذه النصرة هي نصرة الله تعالى ودينه، من منطلق باعث عقدي خالص لا تُنازِعه بواعث أخرى.
والدفاع عن بقعة جغرافية من الأرض أو الانتفاض لحُرمة حَرَم مقدّس أو الحميّة للعِرض والقرابة وغير ذلك من أنواع النصرة المشروعة حين تصدر من مسلم لا بد أن تكون بدافع نصرة دين الله تعالى، وامتثال أمره وحدوده تعالى في هيئة النصرة وإجراءاتها.
فإن الأرض كلها لله تعالى أولًا وآخرًا، والمسلم عالمي الانتماء وإن جُنِّس لاعتبارات طارئة؛ والله تعالى هو الذي حَرَّم الحُرُمات فتقديسها إنما هو إعظام لحدوده وحرماته وقضية الوجود الوحيدة منذ أنشأه الله تعالى هي قضية التوحيد وإظهار الحق على الباطل والتمكين لحكم الله تعالى في أرضه.
___________________________
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر (3062).
(2) صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب (3884).