التدين ظاهرة معاصرة نشأت كرد فعل لحالة التماهي مع القيم الوافدة، وتعدُّ من التمرد على حالة التغريب المتعمد التي تسري في أوساطنا العربية عبر العديد من الوسائل والأساليب، وهو حالة من انضباط السلوك وفق تعاليم الشرع، وضبط النفس ظاهراً وباطناً، وفق تعاليم الدين؛ فهو بذلك لا يعدُّ من خصائص العصر، ولا هو وليد أحداثه وتغيراته، بل الجديد فقط هو المصطلح، لكنه معروفة منذ الأزل.
ظاهرة عتيقة
ظاهرة التدين لها مظاهر وتجليات عديدة في كل زمن، ففي زمن الرسالة كان الصحب الكرام هم النموذج الأقرب لقيم الوحي وتعاليمه ظاهراً وباطناً، ولكن لما كانت هذه حالة عامة لا جديد فيها أراد فريق منهم أن يسمو بتدينه عن الحالة العامة، ولعلهم تدارسوا أمرهم ووجدوا تقصيراً شديداً في جنب الله تعالى، فأرادوا أن يأخذوا الأسوة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة التي أرادوا تمثلها، فذهبوا يسألون عن عبادته من أقرب الملاصقين له، العارفين بأحواله؛ وهم زوجاته.
كانت عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة الكمَّل من الخلق، هي الصورة الأتم والأكمل لحقيقة العبادة، ظن هذا الفريق بدءاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم العبادة، وهو كذلك فعلاً، لكن هذه العبادة لها مدارات عديدة، وهي توازن بين مطالب النفس ومطالب الجسم، وفرائض الله تعالى، ونوافل الخير التي يتقرب بها المتقربون.
كان السائلون شباباً يافعين، ظنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أبداً، ونساؤه في بيته كالأيامى بلا زوج، وطعامه الشعير، والتمر.
طبيعة الشباب المتدين يظن أن زمن الطعام مخصوم من العمر، وأن وقت النوم كذلك، وأن قضاء الوطر من النساء أمر يعافه السائرون في طريق الله تعالى.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم فكرة التدين الصحيح النموذج الأكمل في الطاعة، فقال لهم: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مني» (متفق عليه).
وهكذا صحح لهم التصور صلى الله عليه وسلم، فالتدين توازن يقيمه الإنسان في حياته، بين مطالب النفس ومطالب الجسم، وبين أوامر الله ونواهيه.
العلمانية تغزو التدين
العلمانية هي هذا الوباء الذي يمثل التجسيد الواقعي لعهد الشيطان الذي أبرمه على نفسه: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16).
العلمانية هي حالة مروق خفي ومعلن في حياة بشر لا يحصون عدداً، إحدى مشكلات التدين المعاصر هي العلمانية التي تغزو جوانب عديدة عند المتدينين، فحالة الرفض للعلمانية هي القول المتفق عليه بين كل المتدينين، لكن السقوط يكون وقت البلاء.
في كلمة متداولة على لسان نابليون بونابرت قال فيها، ناعياً على كهنة الكنائس: «إنني محاط بكهنة يرددون باستمرار أن الدنيا ليست دارهم، ورغم ذلك يضعون أيديهم على كل شيء يستطيعون الوصول إليه».
أيًا كان صحة نسبة المقولة لقائلها، فالفصل بين النظرية والتطبيق، أو الاعتقاد والممارسة أحد أهم عيوب نلاحظها فيمن يدعون التدين، ويتظاهرون به بلا خجل.
في حالة التدين التي أشرنا لها بين شباب الصحابة الذين قصدوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم، صدر النهي النبوي لهم، ونلاحظ أنه نهي عن الإغراق المؤدي لقتل حاجات النفس.
لكن في حالة التدين المعاصر نجد أن آلاف الكتب الصادرة والمواعظ المنطوقة والخطب المسجلة لم تمنع استشراء نقض شعب الإيمان بين طوائف المتدينين.
نلاحظ فصلاً مقيتاً بين ما يقال وما يُمارس، بين التعصب للقضايا، والانقياد للهوى.
يحذر الشيخ محمد الغزالي من بعض مظاهر التدين المرذول فيقول: «إن كل تدين يجافي العلم، ويخاصم الفكر، ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة، هو تدين فقد كل صلاحيته للبقاء، وما نظن أهل الأرض يحنون للعودة إليه بعد ما منحوا نعمة الخلاص منه، التدين الحقيقي إيمان بالله العظيم، وشعور بالخلافة عنه في الأرض، وتطلع إلى السيادة التي اقتضتها هذه الخلافة»(1).
خطوات نحو التدين الصحيح
التدين الصحيح هو التعبير النبوي عن حالة المؤمن القوي، الذي هو أحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
التدين الصحيح هو الذي يتحرى صاحبه الصدق أبداً، في معاملاته وفي كلامه، ويضم له العدل مع القريب والبعيد.
التدين الحق هو الذي لا يصاحب حاملَه غرورٌ بالنعمة إذا جاءت، وتسخط بالقضاء إذا ذهبت.
التدين هو إيثار عمل السر على عمل العلانية، وإيثار الخمول على شهوة الذكر (الترند) هو كما يقول الشيخ راتب النابلسي: «كالجذر من الشجرة يمدها بالغذاء وهو في باطن الأرض، وكالأساس في البنيان يختفي في العمق، وهو الذي يمسك المبنى عن السقوط».
والمتدين كما قيل في بعض وصفه: «لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصاب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق، إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بُغي عليه صبر، حتى يكون الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه»(2).
تديُّن لا يساوي شيئاً
في الأزمنة الأخيرة وجدنا من ينشغل بالتنظير على حساب السلوك، فيقضي الأوقات الطوال في حفظ شرائط كلمة التوحيد ونواقض كلمة التوحيد، وتقرير ما يتعلق بالأسماء والصفات في مجالس العامة، وعلى منصات التواصل، ويمضي به الزمن في تصنيف الناس على حسب الشرائط والنواقض، ومعرفة ضابط الأسماء والصفات، وقد ماتت أجيال لا حصر لها من المسلمين دون أن يحفظوا الشرائط أو يعرفوا النواقض، أو يتقنوا الضوابط، ولكن كان السلوك سلوك الموحدين، وكان إيمان العجائز هو الصورة الأتم للتدين السائر، فلا تكلف ولا انشغال إلا بالآخر، وعبادة الله بالفطرة والسليقة التي تغذيها كلمة التوحيد.
مما يؤسف له أن يهاجم شخص القوانين الوضعية، ويكون هو أول من يستعملها ليضر بها مطلقته، أو تضر هي مطلقها؛ مما يؤسف له أن نكره الظلم ونبغضه للخلق، ونجد آلافاً من المتدينين لا يتورعون عن أكل المواريث الشرعية، مما يؤسف له أن نحرم الربا، ونلجأ مختارين لتحسين الدخول وبناء الاستثمارات الخاصة، من المؤسف أن نتحدث عن الحجاب والستر، ونسقط في اختبارات الحجاب في اختيار الزوجات وزوجات الأبناء.
إن التدين هو سلوك معبِّر عن إرادة الله والدار الآخرة، لا صورة العجز التي قال فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»(3).
وهكذا يكون التدين مرآة صادقة عن سلوك ونفس المتدين.
______________________
(1) ركائز الإيمان، ص16.
(2) مفتاح الأفكار (2/ 188).
(3) أخرجه الحاكم، وقال على شرط البخاري.