ما زالت «طوفان الأقصى» تعصف بالكيان الصهيوني وتزلزل أركانه بوتيرة تصاعدية مطردة، بلغت حدتها في الأسابيع الأخيرة مبلغاً خطيراً، حيث اتّسعت رقعة التناقضات بين أقطاب هذا الكيان المجرم، وتعمقت الانقسامات بين مكوّناته، وارتفعت سخونة التفاعلات فيما بينها إلى درجة تُنذر باندلاع حرب أهلية وشيكة في ربوعه، وهو ما عكسته الصحافة «الإسرائيلية» والمواقع الإخبارية الإلكترونية، بموادها الإخبارية.
أولاً: تظاهرات واسعة وإعلان العصيان المدني:
نبدأ بصحيفة «يسرائيل هيوم»، التي نقلت، على صفحات عددها الصادر في الأول من سبتمبر الجاري، دعوات أطلقها أهالي الأسرى «الإسرائيليين» لعموم الشعب «الإسرائيلي» للخروج في مظاهرات ضخمة، وإغلاق الشركات والمكاتب، وإيقاف مختلف الأنشطة التجارية والفنية، وذلك إِثر استعادة رفاة الأسرى الستة الذين قُتلوا في أنفاق غزة، كما أكد الخبر الاستجابة الواسعة التي لاقتها هذه الدعوات بالفعل والتفاعل معها من قِبل قطاعات واسعة من الجماهير.
أما الأكثر سخونة في هذا السياق فهو دعوة إيهود باراك، رئيس الحكومة «الإسرائيلية» الأسبق، إلى عصيان مدني موسع ومستمر حتى إسقاط نتنياهو، لأنه لا يريد وقف الحرب، حسبما نقل عنه الموقع الإخباري «سروجيم»، في الأول من سبتمبر الجاري، كما نقل الموقع، في السياق ذاته، عن المسؤولين في «الهستدروت» (الاتحاد العام لنقابات العمال في «إسرائيل») تصريحات مفادها أنهم يدرسون القيام بإضراب اقتصادي شامل، بهدف الضغط على الحكومة «الإسرائيلية» للتوقيع على صفقة تبادل المختطفين (الأسرى).
ثانياً: بدايات انقسام مجتمعي وظهور مخاوف من احتراب داخلي:
ومع الارتفاع المتزايد لسخونة الأحداث وسرعة تواليها، تجاوزت الأوضاع مرحلة التظاهرات والإضرابات ونحوها، ووصلت إلى بدايات انقسام المجتمع على نفسه بشكل ملموس، وها هو ران أدليست، الكاتب والمحلل السياسي الشهير في صحيفة «معاريف»، يستقرئ أبعاد الواقع المرعب، محذراً من خطورتها على تماسك المجتمع «الإسرائيلي»، في مقال له بعنوان «في الحرب على المستقبل: نقاط اللاعودة التي تجاوزناها وتلك التي في طريقنا إليها»، ومما جاء فيه: إن ما كان قائماً لن يعود أبداً، فالدولة تعمل حالياً على مستوى العالم الثاني، وفي اتجاهها نحو العالم الثالث.. بحيث يحكم كل زعيم قبلي القطيع الذي يرعاه، بناء على التقسيم القبلي الراهن كجزء من خطة الانفصال.
ثم يواصل قائلاً: أكثر نقاط اللاعودة خطورة، تكمن في ضرب التماسك الداخلي إبّان الحرب.. إن الأمر المقطوع به في الصراع الداخلي «الإسرائيلي» يتمثل في أن ثمة جنوداً يَقتلون ويُقتلون دون إرادتهم، وهذا يمثل في نفس الوقت مصلحة أمنية وأيديولوجية لنصف مواطني الدولة على الأقل. (معاريف، 6/ 9/ 2024).
هذا يعني بكل وضوح أن الاحتقان قد تملّك نفوسهم الخبيثة، وأن مخاوفهم من تعمق الانقسام المجتمعي الذي قد يُفضي في نهاية المطاف إلى حرب أهلية قد بلغت حدّاً مفزعاً، بحيث باتت تسيطر على عقولهم، وليس هناك ما هو أدلّ على خطورة الأوضاع وشدة هذه المخاوف من أنها استدعت إلى ذاكرتهم القومية والدينية اثنين من أخطر الأحداث الكارثية في تاريخهم وأكثرها مرارة في نفوسهم، ألا وهما خراب الهيكل الأول، وخراب الهيكل الثاني، برمزيتهما التاريخية بالغة المأساوية في الوجدان اليهودي.
إذ إن هاتين الكارثتين مرتبطتان في الذهنية اليهودية بانقسام المجتمع اليهودي على نفسه، والصراعات الدموية بين مكوناته، من حيث إنهما كانتا من أهم العوامل التي تسببت في وقوع الكارثتين التاريخيتين اللتين أفضيا إلى الانهيار الديني والسياسي لليهود في كل مرة، وزوال دولتهم وتشتتهم في بقاع العالم ووقوعهم تحت سيطرة شعوب أخرى.
وعلى سبيل المثال، كتب المستشرق الشهير د. يهودا بلانجا، الأستاذ بجامعة بر إيلان، في هذا السياق تحت عنوان «البيت المنقسم على ذاته لا يمكنه الصمود»، قائلاً: لقد عانى الشعب اليهودي في ماضيه مرتين من الهزيمة والدمار، تسببتا في فقدان استقلاله ونفيه، حدث ذلك في المرتين بسبب القيادة التي كانت ضعيفة، وقصيرة النظر، وفاشلة، ففي الأولى لم تتمكّن القيادة من الحفاظ على وحدة الأمّة في بداية مرحلة الهيكل الأول، بسبب تعجرفها وانغلاقها، مما أدى إلى انقسام الشعب إلى مملكتين.
ثم يواصل بلانجا قائلاً: أما المرة الثانية، التي لم نتعافَ منها إلا بعد ما يقرب من 2000 عام، فقد كانت مع دمار الهيكل الثاني، وثمة مقولة مأثورة عن حاخاماتنا مفادها: «إن الهيكل الثاني دُمِّر بسبب الكراهية المجانية»، بهذه الكلمات لخّص حاخاماتنا الصدمة كاملةً، بيد أن هذه الصدمة، مركَّبة من مجموعة من التفاصيل، فسقوط مملكتي يهوذا والقدس كان نتيجة مباشرة لانهيار القيادة والانقسام الذي ساد الشعب آنذاك. (يسرائيل هيوم، 3/ 9/ 2024م).
كان رئيس الحكومة «الإسرائيلية» الأسبق إيهود أولمرت أول من تحدث عن احتمال اندلاع حرب أهلية في الكيان الصهيوني، تندلع شرارتها على يد من يُعرفون بـ«شباب التلال» وهم مجموعات شبابية من المستوطنين الصهاينة المتطرفين، يستوطن غالبيتهم أماكن متناثرة في أراضي الضفة الغربية بمعزل عن النشاط الاستيطاني «الإسرائيلي» الرسمي، ويقومون بأعمال عنف ونهب ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم.
ثالثاً: انتقاد الجيش علناً وأول استقالة لقيادة عسكرية رفيعة:
العامل الأخطر في هذا السياق الذي يدعم التوقعات بانزلاق هذا الكيان إلى احتراب أهلي في المنظور القريب، يتمثل في توجيه اللوم والانتقاد علناً وبشكل متكرر إلى الجيش للمرة الأولى منذ نشأة هذا الكيان، إذ كان الجيش يحظى دائماً ومنذ البداية بمكانة خاصة تصل إلى درجة التقديس، باعتباره المخلب الرئيس لكيان لقيط مجرم قائم أساساً على الاحتلال واغتصاب الأراضي وطرد أهلها منها.
ففي 2 سبتمبر الجاري، نقلت «القناة 12» عن زعيم المعارضة يائير لبيد، رسالته الموجهة لأعضاء الحكومة التي جاء فيها: إنكم مشاركون في أضخم كارثة تمر بها البلاد عبر تاريخها، وتتحملون المسؤولية عن جميع القرارات.. الأسرى يموتون تِباعاً، والجيش يمر بأكثر أزماته عمقاً.
ويصبح الأمر أكثر مأساوية حينما تصدر انتقادات من هذا النوع على لسان بعض قيادات الجيش السابقين أنفسهم، ومن هؤلاء اللواء احتياط يتسحاق بريك، الذي كتب مقالًا مطولاً في هذا الخصوص، في 2 سبتمبر، على صفحات جريدة «هاآرتس»، كان من جملة ما قاله فيه: ثمة من يدّعون أن الخروج من غزة بعد توقيع اتفاق مع «حماس» لاستعادة المختطفين، بمثابة هزيمة واستسلام.. هذا الزعم يرتكز على سوء فهم جوهري لما يحدث في غزة، ويتغذّى على الكليشيهات التي ينشرها المسؤولون السياسيون والقادة العسكريون، لتبرير أفعالهم ولكسب الدعم والشرعية الشعبية لاستمرار القتال الفاشل.
ثم دعا المسؤولين «الإسرائيليين» لضرورة وقف لقتال في غزة، مختتماً كلامه بقوله: خلال فترة التهدئة سوف نستعيد الجيش، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، وقوة المجتمع «الإسرائيلي»، وسوف نغيّر المستوى السياسي والعسكري الذي تسبّب في الفشل الذريع، وسوف ننطلق في مسار جديد.
ومن الطبيعي أن تكون لهذه الانتقادات العلنية المتكررة أصداؤها السلبية على المؤسسة العسكرية، التي كان من أبرزها استقالة قائد القوات البرية مطلع سبتمبر الجاري، وهو الخبر الذي تناقلته الصحافة «الإسرائيلية» في حينه بسرعة مذهلة وباهتمام بالغ مشوب بالقلق، منها على سبيل المثال موقع «سروجيم» الإخباري واسع الانتشار، الذي أورد الخبر فور حدوثه في الثالث من الشهر الجاري، وكذلك صحيفة «يسرائيل هيوم»، التي نشرت الخبر أيضاً في التوقيت نفسه، وغيرهما الكثير، واللافت للنظر، وهو المتوقع والمعهود أيضاً في مثل هذا الظرف العصيب للكيان الصهيوني، أن الصحف والمواقع الإخبارية عَزَت استقالة الرجل من منصبه كقائد للقوات البرية إلى أسباب شخصية! الأمر الذي يُكمل أبعاد الصورة البائسة ويزيدها قتامة.
إن لهذه الأخبار والتحليلات والتصريحات دلالات عميقة ومهمة في سياق الأوضاع الراهنة داخل هذا الكيان الإجرامي، فضلاً عن مضمونها، لعدة اعتبارات: أولها: أنها جميعاً صادرة عن شخصيات عامة على مستوى رفيع داخل هذا الكيان؛ من رؤساء حكومات سابقين، وقيادات عسكرية، وكُتاب ومحللين كبار.. ثانيها: أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الكيان التي تتجاسر فيها أصوات من داخله على انتقاد الجيش، وتوجيه اللوم له علانية، واتهامه بالفشل الذريع.
ثالثها: أنها ربطت بين الأوضاع الراهنة في الكيان الصهيوني، وخراب البيت الأول والثاني، بظلالهما التاريخية حالكة السواد، وآخرها أنها تضمنت خبراً عن أول استقالة لقائد عسكري رفيع في الجيش الصهيوني، قائد القوات البرية، التي بالتأكيد أتت انعكاساً لحالة التردي العسكري ومؤشراً عليها.
وإذا وضعنا طرفاً يسيراً مما أوردناه في متابعات سابقة عن الكراهية المشتعلة داخل الكيان التي تتعمّق مع استمرار الحرب، بين اليمين واليسار، وبين المتدينين والعلمانيين، لاكتملت الصورة القاتمة بمختلف أبعادها؛ حرب أهلية تلوح نُذُرها في الأفق، ومع التأكيد على أنها بداية النهاية، فإن النهاية الأبدية لهذا الكيان لن تتم سريعاً في الغالب، كما أنه لا بد أن تسبقها تطورات إيجابية جذرية في أوضاعنا ومواقفنا وتوجهاتنا نحن معشر العرب والمسلمين.