كاتب المدونة: أنس شودهري
تحتل بنغلاديش المرتبة الرابعة بين الدول المسلمة من حيث عدد المسلمين، يعيش فيها أكثر من 150 مليون مسلم، فموقف الشعب البنغالي من القضية الفلسطينية له أهمية بالغة، من الناحية السياسية والدينية، ومعلوم أن بنغلاديش فيها شبكة واسعة للمدارس الدينية، وفيها مئات الآلاف من العلماء والمشايخ، ولهم تأثير كبير على الشعب البنغالي.
ولا يخفى أن العلماء والمشايخ لهم جماعات وأحزاب وطوائف، ويوجد اختلافات فيما بينهم في كثير من القضايا الفكرية والمسائل الشرعية ومناهج الأعمال الدينية، إلا أن كلمة علماء بنغلاديش اتفقت في القضية الفلسطينية اتفاقاً قلما يوجد له نظير، وبما أنني رأيت العلماء عن قرب، وتتلمذت على يديهم، ونظرت في أعمالهم وتعرفت على أفكارهم، أرى من المفيد أن أسجل هنا ما رأيت من موقفهم من القضية الفلسطينية، وكيف يرونها؟ وماذا يعملون لأجلها؟ خصوصاً بعد «طوفان الأقصى»، العملية البطولية التي جرت في 7 أكتوبر 2023م.
يرى علماء بنغلاديش أن فلسطين أراض إسلامية، وهي أراض للمسلمين، والمسجد الأقصى أو البيت المقدس مكان مقدس عند المسلمين، فهم المسؤولون بتحريره من دنس اليهود المحتلين، وبرفع العدوان الصهيوني عنه، والقضية الفلسطينية ليست قضية أهلنا في فلسطين فقط، بل هي قضية إسلامية وإنسانية، تهم كل مسلم في العالم وتهم كل إنسان، وإن أراضي فلسطين لأهلها، فهم أحق الناس بها وبإدارتها وإقامة دولة لهم فيها، كما كانت فلسطين دولتهم عبر القرون البعيدة، منذ أن فتحها الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا حق لليهود المحتلين القادمين من دول العالم المختلفة في الأراضي الفلسطينية، لا حق شرعياً ولا بمقتضى القوانين والأعراف الدولية.
ولا يرون دولة الاحتلال إلا نتيجة دهاء ماكر بريطانيا، وهي البذرة الخبيثة التي زرعها الاحتلال البريطاني في أراضي فلسطين، ثم قامت القوى الأوروبية والأمريكية بتأييد اليهود وتمكينهم من إقامة دولة فيها ظلماً وعدواناً، والهدف من إقامة الدولة الصهيونية فيها فرض سيطرة الغرب السياسية والاقتصادية والثقافية على المنطقة.
لذلك، لم تتخذ دول الغرب ولا مؤسساتها الحقوقية العالمية أي قرار حاسم لصالح الشعب الفلسطيني المظلوم، منذ سبعة عقود، وقد قتلت مئات آلاف من الرجال والنساء والأطفال العزل، ودمرت المدن والقرى، وهدمت البيوت والمنازل والمدارس والمتاجر والمساجد، وأخرجت الملايين من أراضيهم، لكن لم يحرك كل ذلك ساكناً في دول الغرب، التي تتغنى بالحرية والعدالة وبحقوق الإنسان وحقوق النساء والأطفال.
فعلماء بنغلاديش يرون أن الاعتماد على دول الغرب ومؤسساتها التابعة والانتقائية، لم يجلب نفعاً لأهلنا في فلسطين، ولن يحل مشكلاتهم، لأن دول الغرب لها مصالحها الذاتية مع قيام دولة الاحتلال، لذلك، لا بد للمسلمين -بعد التوكل واليقين بالله تعالى- من الاعتماد على أنفسهم وأسلحتهم ويلزمهم -دولاً وشعوباً- أن يتأهبوا ويتحركوا لرفع العدوان الصهيوني من أراضيهم، هذا ما يأمرهم به الشرع الحنيف، وهذا ما أثبته الواقع الأليم منذ قيام دولة الاحتلال، حيث باءت الاتفاقيات بين بعض القادة في فلسطين والكيان المحتل بالفشل، بل جعلت المحتلين أكثر سفكاً للدماء، وأشد إجراماً وإفساداً.
ومن ثم يعتقدون بأن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو إزالة دولة الاحتلال من أراضي فلسطين كلها، إزالة كاملة، ثم إقامة دولة إسلامية فيها لأهل فلسطين، وأن السلام الشامل المنشود لا يتم إلا بهذا الطريق، فلا يرون حل الدولتين حلاً مقبولاً ولا ناجحاً في الواقع، ولا جالباً للسلام والاستقرار في المنطقة، حتى إنهم لا يرضون بأن يسموا الكيان الصهيوني بـ«إسرائيل»؛ لما في هذه التسمية من تسليم بها ولو لفظاً، فهم يصفونها بـ«الدولة المحتلة»، الاحتلال أو المحتلين، إلا إن اضطروا إلى ذلك.
كما أن مشايخ بنغلاديش يكنون الحب والتقدير العظيم لإخوانهم في فلسطين وفي غزة خصوصاً، الصابرين الصامدين الرافضين للاحتلال الصهيوني، ويظهرون تأييداً مطلقاً للمجاهدين في سبيل تحرير فلسطين والمسجد الأقصى، ويرون وجوب نصرتهم على كل من وجد إلى نصرتهم سبيلاً، ويعدون نصرتهم شرفاً عظيماً لمن ينصرهم، بل هي مسؤولية شرعية على عاتقهم وواجب ديني مقدس، فهي ليست إحساناً وتبرعاً أبداً.
ومن هذه الرؤية يرون «حماس» ومن نحا نحوها بأنهم يقومون بعمل عظيم ويؤدون الواجب والمسؤولية عن الأمة، فهي تستحق التأييد والمباركة والتحفيز والمساعدة والشكر من أفراد هذه الأمة، وأما من خذلهم أو ثبطهم أو نقص من تضحياتهم، فهو جبان، ميت الضمير، بل هو خائن للأمة الإسلامية، وهذا التصرف المشبوه منه يدل على عدم فهمه للتعاليم الدينية الصحيحة.
وعلماء بنغلاديش يشعرون بالخجل والندم على عدم مشاركتهم مع المجاهدين في غزة وفي أراضي فلسطين، لأجل النظام العالمي المسيطر والمتحكم على إرادات الشعوب، كما لا يخفى على أحد، إلا أنهم يرفعون أصواتهم في كل مكان، في منابر الجوامع المنتشرة في طول بنغلاديش وعرضها، وفي منصات جلسات الوعظ والإرشاد، في أرجاء الوطن، فلا تجد مدينة ولا قرية إلا تنعقد فيها الجلسات الكبيرة والصغيرة، ويذكر العلماء والخطباء فيها ما يرتكبه الاحتلال الصهيوني في فلسطين، من أبشع الجرائم في حق الأبرياء، وجمهور الشعب البنغالي المسلم يتأثرون بذلك ويشعرون نفس شعور العلماء تجاه القضية الفلسطينية.
وكذلك تخرج المظاهرات الواسعة في كل مدينة من مدن بنغلاديش، ويشارك فيها كل أصناف من الناس، من العلماء والطلبة والموظفين والتجار والعمال وغيرهم، ويظهرون تضامنهم مع إخوانهم في فلسطين، ويرون أن هذه الفعاليات ترفع من معنويات المقاتلين في ساحة القتال مع المحتلين، وكذلك تعقد المؤتمرات الخاصة بالقضية الفلسطينية في كبرى المدن، وهي موجهة إلى الطبقة المثقفة من أساتذة الجامعات العامة والأكاديميين والكتَّاب والمفكرين والصحفيين وأصحاب المناصب ورجال الأعمال، وبعضهم يشارك فيها مباشرة، بدعوة من العلماء والمشايخ.
كما أنهم يرون ضرورة مقاطعة المنتجات والشركات المؤيدة للاحتلال الصهيوني، وحملات المقاطعة لهذا النوع من المنتجات نجحت في بنغلاديش إلى حد كبير، فقد خسرت شركات عالمية متورطة بتأييد الإبادة في غزة، أرباحاً هائلة، خصوصاً شركة «كوك»، المنتجة لمشروبات «كوكاكولا»، المعروفة المنتشرة في بنغلاديش، لكن بعد حملات المقاطعة الواسعة تراجعت نسبة بيعها بـ60% كما ورد في تقرير لـ«بي بي سي- بنغالية»، بخلاف شركات محلية، خصوصاً شركة «أكيز»، المنتجة لمشروبات «موزو»، فقد وقفت مع أهل غزة وأعلنت بالتبرع بواحد تاكا (العملة البنغالية) مقابل كل علبة، فاستقبلها الجمهور بقبول واسع غير مسبوق، حتى إن الشركة عجزت عن توفير المشروبات المطلوبة من المستهلكين، وفعلاً قدمت شركة «أكيز» الملايين إلى بيت الزكاة والصدقات التابع للجامع الأزهر، ووصلت إلى غزة، وقد اقتفت شركات أخرى إثرها فيما بعد.
وهذا الموقف القوي أثر إيجابياً على حكومة بنغلاديش، فكل حكومة تولت سلطة بنغلاديش أدركت هذا الموقف الشريف من القضية الفلسطينية، لعلماء بنغلاديش وشعبها، فلم تفكر في تطبيع علاقتها مع دولة الاحتلال رغم ضغوطات بعض الدول الأجنبية، حتى الحكومة العلمانية الموالية التابعة للهند، لم تتجرأ على إظهار ولاءها لدولة الاحتلال، بل كانت بنغلاديش مؤيدة لقضية فلسطين، في المجالس الدولية.
وقد اتفقت كلمة العلماء والمشايخ في بنغلاديش على هذه النقاط، بل ما زالوا يتمسكون بهذه المبادئ منذ أيام الاحتلال الصهيوني على الأراضي الفلسطينية.
نرجو أن تستمر هذه الجهود في نصرة المسجد الأقصى وفي نصرة إخواننا في فلسطين، وأن ينتشر مثل هذه المساعي في بقاع العالم كلها أكثر فأكثر، حتى يعجل رفع الظلم والعدوان على فلسطين، لعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً.