قرر القرآن الكريم قواعد البناء المثالي للدولة التي ينشدها الإسلام، وذلك من خلال نموذج واقعي تاريخي، متمثل في دولة سيدنا سليمان عليه السلام، التي فصّل القرآن الكريم القول في ركائزها في سورة «النمل»، حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15)، وفيما يأتي بيان قواعد بناء الدولة النموذجية في ضوء قصة سيدنا سليمان عليه السلام، نذكرها باختصار من كتاب «تذكرة الدعاة» للشيخ البهي الخولي، رحمه الله.
1- قوة وعلم:
يقوم المُلك العظيم على دعامتين كبيرتين أصيلتين، هما: القوة والعلم، فالقوة تجمع قوة الأبدان، وكثافة الجنود المدربين، ووفرة الأسلحة والآلات، والعلم هو نور العقول والقلوب، وهو الوسيلة إلى معرفة قوانين الوجود وسنن الطبيعة، لتسخير ما يمكن تسخيره منها في منافع الدولة، وهذه هو العلم النافع.
أما القوة في قصة سيدنا سليمان عليه السلام، فجاءت في قوله تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل: 17)، إنهم مع كثرتهم وتزاحمهم يحفظون نظامهم ويبقون على تنسيق صفوفهم، فلا يتقدم المتأخر، ولا يتأخر المتقدم، هؤلاء الجنود التي لم يعرف لهم مثيل في تعدد أجناسهم تبعث الرعب في جميع الآفاق، حتى ليدخل الوجل في قلوب النمل فضلاً عن غيره، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (النمل: 18)، ثم تظهر علامة أخرى لهذه القوة في قول سيدنا سليمان عليه السلام: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل: 37).
أما العلم في هذه الدولة الفتية فيظهر في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ {15} وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل)، وهذا العلم يشمل جميع أنواع العلم، لقوله: (وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ).
وأما ثمرة هذا العلم العملية في الدولة، فهي السيطرة على قوانين الطبيعة وقواها المختلفة لتسخيرها في منافع الدولة، ومنها ما فعله حين أراد أن يأتي بعرش ملكة سبأ، فاستخدم العلم في ذلك، حيث قال تعالى: (قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل).
2- رسالة:
لا بد للدولة من رسالة مجيدة تسعى لتحقيقها، وتصرف إليها قوتها وعلمها، فما هذه الرسالة في الدولة القرآنية المجيدة؟ إن الغاية الفاضلة التي يجب أن تعيش لها الدولة الفاضلة وتعمل جاهدة لتحقيقها، غير ناظرة إلى شيء سواها، هي توحيد الله عز وجل، وجمع الناس على الإيمان به وحده، وتطهير الأرض من كل رجس وشرك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله.
وتظهر هذه القاعدة عملياً في دولة سيدنا سليمان عليه السلام من خلال الحرص على تعبيد الناس لله تعالى، حيث قال عز وجل على لسان الهدهد: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ {23} وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ {24} أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ {25} اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (النمل).
أما دور سيدنا سليمان عليه السلام فهو خادم لنفس الغاية، حيث أرسل رسالته إليهم بهذا الكتاب الموجز: (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {30} أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل)، وما زال بهم سليمان عليه السلام حتى قالت ملكتهم في النهاية: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: 44).
3- إيمان الرئيس الأعلى وعنايته بكل شيء:
إن من تمام نظام الدولة أن يكون رئيسها الأعلى عالماً بغايتها، مؤمناً بها، عاملاً جهده لها، هذه واحدة، والأخرى أن يكون يقظاً ومنتبهاً، متعهداً لشؤون رعيته، صغيرها وكبيرها، حازماً في محاسبة المسؤولين، فإن لم يكن كذلك انحل التناسق في قوى الدولة وانفرط عقدها، ويظهر التطبيق العملي لذلك في قوله تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {20} لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) (النمل)، في هذا دليل على استقصاء كامل في رعاية نواحي الدولة والعناية بأمرها، بل إن هذا المثال يعلمنا أن الاهتمام بصغائر الأمور يجعل الاهتمام بكبارها أشد وأعظم، وأن الذي يحاسب الحساب العسير الحازم على ما قد يبدو تافهاً، لا يمكن أن يفرط في المؤاخذة على الأخطاء الجسيمة.
4- إيمان أفراد الشعب برسالة الدولة:
يجب أن يؤمن أفراد الرعية بغاية الدولة، وأن يجندوا أنفسهم لها، بل إن كل ما مضى مما قررناه يصبح عديم الجدوى إذا شذ أفراد الرعية، فاتجهوا إلى غير هذا الاتجاه.
وفي القصة نجد أن الهدهد يعتز بواجبه، ويقول في ثقة المؤمن العامل لغايته العليا، مخاطباً سليمان عليه السلام: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22)؛ إنه ليس خطاب المهمل المذنب المضطرب، وإنما هو خطاب الجندي الذي رضي عن نفسه واطمأن إلى أداء واجبه، فهو لا يعبأ أن يخاطب أعظم مخلوق بلغة الحق القوي.
وفي مقابل ذلك، نجد أن عدم إيمان أفراد الشعب برسالة الدولة لا ينتج إلا سلبية واستسلاماً، فعندما جمعت بلقيس قومها تستشيرهم فيما نزل بها، فلم تجد منهم إلا أن قالوا: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: 33)، فلم يسعفوها برأي تأنس به، وهذا ضرب من الرجال لا تقوم به دولة.