في زمن المحنة تشتد حاجة الإنسان إلى العقل، العقل الذي يُدرك الواقع ويفهمه، ويتأمل أسبابه وعِلَله، ويبحث في سُبُل الخروج من آلامه وأزماته بأسرع وقت وأقل تكلفة وجهد، فالعقل في الإسلام نعمة إلهية وميزة ربانية، رفعَ اللهُ به الإنسانَ فوق سائر مخلوقاته، وجعله الدليلَ على وجوده وبعض أمهات صفاته، والمُثبتَ لصدق رُسُله الكرام عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
وبالعقل يتأمل المسلمُ النصَ ويَتعقَّلُه، ويَبحث فيه عن عِلَله ومقاصده، وبه يُنَزِّل الأحكامَ الشرعيةَ المناسبةَ على الوقائع المختلفة في كل زمان ومكان، وإن اشتدت المحن والأزمات على الأمة كان العقل المستنير بأنوار الوحي والشريعة ملاذها في معالجة تلك المحن والأزمات، ومعالجة العوامل التي أوصلت إليها.
وللمحن أسبابها ومنظومتها الأخلاقية والفكرية التي ساهمت في نشأتها وتطورها وتأخر علاجها، ولا يمكن تجاوز تلك المحن أو معالجتها بنفس العقلية التي كان لها دور فيها، ومن هنا احتجنا إلى تلك العملية الإحيائية التجديدية التي لا تكرر أخطاء الماضي وهي تتطلع إلى نتائج مختلفة في الحاضر والمستقبل، ولكن تقوم بدورها الجَديَّ والفاعل في مراجعة وتقييم وتقويم ما كان، مُتحلِّية بالشجاعة والجرأة التي تستعير من الأب حرقته، ومن المفكر منهجيته، ومن الطبيب مهارته وأحياناً مِبضعَه.
وحين نتحدث عن إحياء العقل المسلم في زمن المحنة فيجب أولاً وقبل كل شيء أن نعترف بوجود تلك المحنة، وبإمكانية تجاوزها أو التقليل من آثارها السلبية في الحاضر والمستقبل، وأن هناك بالإمكان أبدع مما كان، لا لنجلد الذات ولا لنتهم إخواننا الذين سبقونا بالإيمان وبذلوا وسعهم واجتهدوا في حدود معرفتهم وإمكانياتهم، بل لنأخذ من الماضي دروسَه وعِبرَه، لتكون رصيداً معرفياً ننتفع به، ونصنع منه لنا ولأمتنا مستقبلاً أفضل وأقرب إلى مراد الله منا، والاعتراف بداية التوصيف، والتشخيص نصف العلاج.
والاعتراف بوجود مشكلة ما في الماضي يدفعنا إلى مراجعة كل شيء، مراجعة منهجية واضحة، لا نخشى معها على ثوابت الدين التي جعلها الله تعالى طريق سعادة الإنسان في كل زمان ومكان؛ لأن هذه الثوابت راسخة في كتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم رسوخ الجبال، لما تستند إليه من القطعيات المحكمات التي هي أم الكتاب، ولكنها مراجعة للموروث الديني والفكري والقيمي الذي ثبَّتَ بعض الأحكام المتغيرة فأعطاها صفة الإطلاق والعموم وهي قاصرة في حدود مكان وزمان معين، أو قطعَ ببعض الأحكام وهي من قبيل الظنيات التي تدخل في دائرة الاجتهاد السائغ المقبول، أو أعطى بعض الأحكام الجزئية صفة العموم والكلية، فصدقتْ من جهة وغابت عنها الصورة الكلية العامة التي تجمع معها غيرها.
فكان حَمَلتُها -كما وصفهم أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»- كجماعة من العميان الذين سمعوا عن وجود حيوان عجيب يسمَّى الفيل، وما عرفوه من قبل، فلما طلبوه ولمسوه وقعت يد أحدهم على رجله، ويد الآخر على نابه، ويد الثالث على أذنه، فقال كل واحد منهم: قد عرفناه! وانصرفوا يصفون الفيل إلى بقية العميان، كل واحد منهم يصف ما لمس وأحس، وكلهم صادق من الجهة التي أصاب منها الفيل، ولكنهم بجملتهم قاصرون عن الإحاطة بحقيقة صورة الفيل.
تلك المراجعة الحقيقية لتراثنا هي التي تعطينا تصوراً دقيقاً لديننا، ندرك معها ثوابت الدين ومتغيراته، وقطعياته وظنياته، وجزئياته وكلياته، وهي الذي تقودنا إلى مراجعة خطابنا الإسلامي العالمي وترشيده، في عصر القرية العالمية الصغيرة، لكي نقدمه للناس -كل الناس- بقوة الحجة والمنطق والبيان، ونخاطبهم بما يعرفون فلا يُكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن هذا التصور الدقيق للدين هو الذي يعطينا فرصة التواصل والتفاعل الإيجابي مع العالم ومنتجاته الحضارية، دون خوف من الحكمة التي كانت ضالةَ المؤمن في زمن قوة الأمة ونهضتها.
ومن جهة أخرى، إن ألم المحنة يدفعنا إلى إحياء العقل في مراجعة تصوراتنا عن الواقع الذي نعيش فيه، إلى مراجعة سُننه وقوانينه، وإلى العوامل المؤثرة فيه، والقوى التي تتجاذبه، والفراغات التي يمكن استثمارها بين الأقوياء فيه، لا على الصعيد المادي الفيزيائي فقط، بل على الصعيد الإنساني والاجتماعي، وصعيد الاتصالات والمواصلات، وصعيد حركة المال وطرق التجارة الدولية ومصالح الشركات العالمية العابرة.
هذا التصور العميق للواقع المركب اليوم هو الذي ينتج العقل المسلم السُّنني الذي يعرف قوانين الله في هذا الزمان ويعمل عن طريقها، العقل الذي يهندس الفكرة ويخطط الحركة ويرتب الكلمة وفق قانون الله، لا العقل المرتجل الذي يخبط خبط عشواء، ولا العقل الذي ينتظر الكرامة لتخرق العادة في زمن عز فيه الأولياء، ولا العقل السلبي الكسول الذي ينتظر المخلص وصاحب الزمان لينصر الحق دون أسباب.
وبمجموع هذين التصورين –التصور الدقيق للدين، والتصور العميق للواقع- نستطيع أن نساهم كأمة في تقديم حلول عملية لبعض المشكلات العالمية التي يطلب العالم لها حلاً اليوم، ونستطيع أن نجيب عن سؤال النهضة الذي شغل بال كثير من المفكرين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
لقد عانى العقل المسلم من الكسل عن التحليل والخوف من التجديد؛ مما أنتج تلك المحن، وتلك الخطوات العجلى في محاولات الخروج منها، وأنتج ذلك الخطاب الديني المنفر الذي لا يعبر عن الأمة ولا عن رسالتها الخالدة، وصار إحياء العقل المسلم وحسن استثماره فريضة شرعية وضرورة واقعية لتجاوز ألم المحنة وإعادة مجد الأمة.