د. عامر البو سلامة
الجماهير المسلمة، ركيزة كل عمل يتعلق بأمتنا، وهم أساس كل خير يرتجى من صناع الحياة على هذه البسيطة.
وهم الأرض التي يستنبت بها الحاضر والمستقبل، كما هم تاريخ الحياة.
ولا يمكن لأي مشروع نهضوي، أن يتحقق، بعيداً عن بناء الجماهير، وصياغتها الصياغة التي تتناسب مع حجم المطلوب منها، وإلا صار المرء كالذي ينفخ بقربة مقطوعة، فلا أرض نبتت، ولا طاغوت قلع، ويبقى الخير في هذه الأمة.
فالجماهير إن أحسنت توجيهها، كانت خيراً وبركة على الحياة، وإن أهملت واستغلها العابثون والمجرمون، حلَّ الويل والثبور، وكانوا أدوات الطواغيت والدكتاتوريين، خصوصاً مع هذا الانفجار المعرفي المريع، من وسائل الاتصال والمواصلات، وأجهزة الإعلام التي تعمل ليل نهار، والتي تفعل فعل السحر أو أكثر في تأثيرها على الناس.
في الحقيقة والواقع، أن الأمة تعاني من مصادرة الجماهير، في كثير من البلدان، وفي شريحة واسعة من الشباب خاصة – نتيجة الفراغ، ومساحات العمل المتروكة – من خلال غزو فكري، بالمستويات كافة، فكرياً من خلال بث الرؤى المنحرفة، والفلسفات الفاسدة، والأفكار المضلة، تارة باسم الحداثة والتجديد، وأخرى باسم العلم والعلمية، وثالثة باسم التنوير والوعي، وفي بعض الأحيان باسم التقدم والتطور، وفي كثير من الأحيان باسم المواكبة والعصرنة.
وتغزو الأمة بالموضات والأفلام المصنوعة بدقة لتحقيق غرض السيطرة على جماهير الأمة، ومثلها نواتج بعض التلفزيونات، وصرعات الفنون، وتستخدم الوسائل المعاصرة من أجل التوجيه غير المباشر، الذي يعمل أكثر من التوجيه المباشر، تأثيراً وخطراً.
والمستبدون هم أكثر الناس فائدة من مثل هذه الوسائل، إذ من خلالها صنعوا أجيال المهرجين والمصفقين، والمطبلين والمزمرين، أتباع كل ناعق.
ويضربون لهذا مثلاً، أن في بلد من البلدان، التي يكاد أهلها يموتون جوعاً، إلى درجة لا توصف فقراً، وبؤساً، وظلمة حياة، وسبب هذا بالمكشوف – حسب التقارير العلمية الموثوقة – هو الدكتاتور الحاكم، في ذلك البلد، بسبب الفساد المالي والإداري والأخلاقي، ورغم هذا عندما يزورهم، يخرجون مصفقين هاتفين بحياة الزعيم الملهم، والقائد الموفق.
هنا تسكب العبرات، وتقتل المرء الحسرات، ويكاد أن يموت غيظاً لهذه النكبات، وما يكون منها من نكسات.
والكلام في هذا يطول، ولكن المهم هنا، أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، مسؤولية من، هذا الذي عليه كثير من جماهير الأمة؟!
والجواب بيسر وسهولة، بعيداً عن تقاذف الاتهامات، وإلقاء اللائمات، والتخلي عن المسؤوليات، هي مسؤولية جماعية، تولى كبر مصيبتها الذين يصنعون هذه الأدوات الإفسادية الإجرامية، ومن يقف إلى جانبهم ويدعمهم ويساندهم.
ولكن على الدعاة والعاملين للإسلام، مسؤولية الحماية والإنقاذ.
الدعاة إلى الله تعالى، يجب عليهم أن يتصدوا لحالة مصادرة الجماهير، من خلال التربية الوقائية، بحمايتهم من هذه الوهدات، والوقوع في هذه الطامات، وهذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو باب من أبواب، الدعوة إلى الهداية من خلال إرشاد الناس، وتربيتهم وتوجيههم نحو الخير، كما ينبغي أن يقوموا بواجب النصح “والدين النصيحة”، للجماهير من جانب، ولمن يمارس هذا العمل المنظم الخطير، من جانب آخر، لكن بقواعد النصح، وضوابط الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وبالمقابل يجب على الدعاة إلى تعالى، أن يوفروا البدائل الصالحة في كل مجال من المجالات، حتى نفقه الواقع، ونواكب العصر، فنقابل الوسيلة بمثلها، والأداة بأختها، والآلة بما يشبهها، ليكون القلب بما هو خير، وإن تشابهت القوالب. “وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، نريد القنوات التلفزيونية، ونحتاج إلى وسائل التواصل المعاصرة، ولا بد من صناعة الأدباء والشعراء والمفكرين والكتاب، ونسد الفراغ في هذا الجانب سداً ناجحاً، يقوم على أسس الفن بأصوله، وبذات الوقت يلتزم قواعد الفضيلة، وأساسيات الحماية والنجاة.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح دار السعادة:
«الوجه الثلاثون بعد المائة: وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)، قال الحسن: “هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، فهذا حبيب الله، هذا ولي الله”، فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد، قال تعالى: (لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) (الجن:19)، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125).
جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية… إلخ».
أيها الدعاة إلى الله تعالى، الله الله في الجماهير، كونوا قريبين منهم، تلمسوا همومهم، اعملوا على حل مشكلاتهم، ولو بكلمة ناصحة، أو مشروع – ولو صغيراً – يرفع عن بعضهم الضيم، الجماهير فيها الخير، وتحب من أحسن إليها، وتودد لها، وكان حضناً دافئاً لها،هذه ليست فلسفة حلمية، ولكن حقائق الواقع – لما تتوافر الشروط الموضوعية لشهودها الحضاري – تنادي على نفسها بقوة، والتاريخ القديم والحديث، يشهد بصدق هذا الأمر.
ومن يقرأ كتاب “رجال الفكر والدعوة” للشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله – يجد حقائق مذهلة في هذا الشأن، فهو كتاب حري أن يقرأ بلغة الدرس والعظة والعبرة.
وفي عصرنا الحاضر، داعية وهب نفسه لهذه الدعوة، تراه – رغم قلة ذات اليد، وضعف الوسائل المتاحة – يشكل رقماً جماهيرياً كبيراً، إنه الإمام حسن البنا – رحمه الله – واحد من هؤلاء، الذين كانوا برهاناً صادقاً وصالحاً، للفكرة التي ندندن حولها.
كان رجل تعريف من طراز متميز، وعبقري تكوين من نوع متفرد، وجهادي تنفيذ من طبقة نادرة المثال.