الناظر إلى أحوال الشعوب الإسلامية والعربية، وما يجري فيها من تقاتل، واستطالة البعض على البعض، وتفشي الظلم، وارتفاع العدل، ليرى كم أن هذه الأمة محتاجة للرحمة فيما بينها.
هذه الرحمة التي لو حلّت لارتفع الظلم، ونشر العدل أجنحته على ربوع العالم العربي والإسلامي.
وقد أراد الإسلام أن يبسط التراحم بين جميع فئات المجتمع، فلا يستطيل أحد على أحد، ولا يتكبر أحد على أحد.
وأصّل النبي -صلى الله عليه وسلم- الرحمة في الأمة فقال: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء”([1]).
وكيف لا يزرع النبي -صلى الله عليه وسلم- الرحمة في الأمة وهو الذي قال فيه ربه -تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [الأنبياء: 107].
وقال عنه كذلك: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم﴾ [التوبة: 128].
رحمة شاملة
رحمته -صلى الله عليه وسلم- رحمة شاملة للجميع، رحمة بالإنسانية عامة، رحمة بالحيوانات العجماوات، ولكننا سنحاول أن نركز الحديث عن الضعفاء وكيف كانت مرحمته -صلى الله عليه وسلم- بهم.
فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قد أعلم القويَّ أن من تمام قوته أن يرحم الضعفاء من صغار السن وكبار السن والمرضى والمعاقين.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- أنه أعلى من قيمة الضعفاء والمرضى وذوي الإعاقات والحاجات، وجعلهم سببًا في النصر الذي قد ينزل على المؤمنين في أوقات الحروب والأزمات، ولم يرهم عالة وعبئًا على الجنود والجيوش.
فقد رأى الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص أنه أفضل من غيره بشجاعته وغناه، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلفت انتباهه، ويحثه على التواضع وخفض الجناح، فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رضي الله عنه أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ؟”([2]).
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رحمته بالضعفاء جعل دعاءهم وإخلاصهم يتساوى في نكاية الأعداء مع من ضربهم بالسيف ورماهم بالنبل.
فهؤلاء الضعفاء الذين هم في بيوتهم وفي مساجدهم يبتهلون إلى الله بإخلاص ينظر الله إليهم، ويُنزل النصر على إخوانهم بجبهات الشرف والشهادة كرامة لهم.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يقصر بركة الضعفاء بالانتصار في أرض الجهاد، بل تعدت بركتهم إلى المعاش اليومي للناس؛ فالضعيف قد لا يستطيع أن يكفل نفسه، أو يسعى على رزقه، فيكون الرزق على الساعي عليهم واسعًا ببركة هؤلاء الضعفة.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه جعل لهم نصيبًا في الغنائم بدعائهم شأنهم شأن الجنود الذين شاركوا في المعارك بسيوفهم.
وقد قيل: إن الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء وأكثر خشوعًا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا، وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله، فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم.
وهو -صلى الله عليه وسلم- بذلك حض خاله سعدًا على التواضع، ونفي الزهو على غيره، وترك احتقار المسلم في كل حالة؛ وأبان -صلى الله عليه وسلم- من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء، فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون؛ فَإِنْ كَانَ الْقَوِيّ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ شَجَاعَتِهِ، فَإِنَّ الضَّعِيفَ يَتَرَجَّحُ بِفَضْلِ دُعَائِهِ وَإِخْلاصِهِ([3]).
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء حتى وإن لم يكونوا من المسلمين أنه فدى بعض الأسرى في غزوة بدر عندما علم فقره وحاجته وأنه ذو عيال.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه رق لحال البعير الذي جاء يشكو له حاله مع صاحبه الذي كان يجيعه ويتعبه في الأعمال، فمسح على الجمل حتى سكن، ثم أوصى صاحبه به خيرًا.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه جاءته إحدى الطيور شاكية له فقدها لأفراخها، فأمر -صلى الله عليه وسلم- برد أفراخها لها حتى تسكن ويستريح قلبها.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه كان إذا سمع وهو يصلي بكاء الأطفال كان يخفف في صلاته حتى لا ينشغل قلب الأم بوليدها.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه كانت تأتيه الأمة فتأخذ بيده وتنطلق به حيث شاءت ليقضي لها حاجتها.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه كانت تأتيه المرأة في عقلها شيء وتطلب منه أن يقضي لها بعض حاجتها فلا يتأخر عنها.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه كان يلاعب أحفاده ويلاطفهم ويحملهم على ظهره، ولم تمنع عنه أعباء النبوة ومشاغل الحياة أن يجعل ظهره مركبًا لأحفاده، وأن يمشي على أربع وأحفاده على ظهره.
ومن رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالضعفاء أنه كان يقبّل الصغار؛ حتى يزرع فيهم الحنان والمودة، وألا تنقطع الصلة بين الأجيال، وقد أنكر أعرابي ذلك؛ حيث إنه لا يقبل أولاده، فوبخه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: “أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة”([4]).
فرحمته -صلى الله عليه وسلم- منظومة متكاملة شملت الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والعدو والصديق، والمرأة والرجل، والمسلم وغير المسلم.
كنز الضعفاء
وقد علمنا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن الضعفاء كنز وليسوا عالة، وهذه النظرة تجعل المجتمع في حالة تلاحم دائم؛ ينصر قويه ضعيفه، ويدعو ضعيفه لقويه.
والقوي لا يبقى قويًّا دائمًا؛ فستأتي عليه أوقات يفقد فيها قوته، ويحتاج إلى من ينصره ويدفع عنه ويعيله.
ولك أن تتصور مجتمعًا قد نُزعت منه الرحمة بين أفراده، لا شك أنه سيكون جحيمًا لا يُطاق، يُصلى بناره الجميع.
إنه الشقاء والعذاب الدنيوي.
فالرحمة نعمة، وعدمها نقمة.
والرحمة تُغلق أبواب الفتن التي تمزق المجتمعات.
والرحمة بالضعفاء باب واسع وطريق ممهد للوصول إلى رضوان الله -تعالى، وإلى أعلى الجنان، فمن سار فيه وصل، ومن ضلّ عنه خاب وخسر.
الهوامش
([1]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(6494)، وقال الأرنؤوط: “صحيح لغيره”.
([2]) أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ…”، (2896).
([3]) انظر: شرح ابن بطال، (5/90-91)، وفتح الباري، (6/89).
([4]) أخرجه البخاري في “الأدب”، باب: “رحمة الولد وتقبيله ومعانقته”، (5998).