جاءني أحد الشباب يخبرني بأنه سمع من يقول بأن صوم التسع أو العشر من ذي الحجة بدعة، فهالني ما قال، وقلت: إن آفة البعض هي نقل قول واحد في المسألة المطروحة، وترك ما سوى ذلك من أقوال، وأحياناً ترك الأقوال الواردة في المسألة إلى قول لم يقل به أحد.
والمشهور عند الفقهاء الصوم في هذه الأيام التسع، وقد جاء في ذلك أدلة عامة وخاصة:
أما العام فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”.
وأما الخاص فمنه ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما: عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ، أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ» (صححه الألباني، وضعفه الأرناؤوط).
وفي رواية عند أحمد وغيره: عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ حَفْصَةَ، قَالَتْ: “أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ ” (ضعفه الألباني والأرناؤوط).
هل هناك معارض لهذا الحديث؟
نعم هناك معارض لهذا الحديث؛ فقد جاء في مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمِ الْعَشْرَ»، وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله: فليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحباباً شديداً لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة. (شرح النووي على مسلم (8/ 71).
ونحن نرى حفصة رضي الله عنها تثبت وعائشة رضي الله عنها تنفي، وللعلماء في ذلك اجتهادات للجمع بين هذه الأحاديث:
1. أن عائشة رضي الله عنها نفت صيام العشر كلها، وهذا حاصل فلم يقل أحد بصوم العشر، لأنه معلوم أن صوم العاشر (الأضحى) حرام.
2. أن عائشة رضي الله عنها نفت، وأما حفصة فأثبتت والمثبت يقدم على النافي لأن لديه زيادة علم.
3. أن عائشة رضي الله عنها لم تكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل أيامه، لأنه يكون عنده يوماً أو يومين في هذه الأيام التسع.. يقول النووي: فقال العلماء هو متأول على أنها لم تره ولا يلزم منه تركه في نفس الأمر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكون عندها في يوم من تسعة أيام والباقي عند باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. (المجموع شرح المهذب (6/ 387).
4. ربما كان مقصود عائشة رضي الله عنها أنه ما أتم قط لوجود عذر في هذه الأيام في كل عام، إما لسفر أو حج أو غزو أو مرض.. يقول النووي: أو لعله صلى الله عليه وسلم كان يصوم بعضه في بعض الأوقات وكله في بعضها ويتركه في بعضها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما. (المجموع شرح المهذب (6/ 387).
5. أو أنه صلى الله عليه وسلم لم يصمها مخافة فرضها على الناس، فترك تمامها مخافة المشقة.
هل في صيام العشر أو التسع بدعة لأن النبي لم يصمها؟
بقي أمر مهم: وهو هب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم هذه الأيام التسع فهل صيامها يعد بدعة؟
إن الوقوف عند حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ” هذا الحديث وحده يكفي للحفاظ على الصيام في هذه الأيام المباركة الفاضلة التي أقسم الله بلياليها، قال ابن حجر: واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد وأجيب بأنه محمول على الغالب. (فتح الباري لابن حجر (2/ 460).
والله تعالى أعلم.
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.