الغرب الذي نحبه ونكرهه له ثلاثة روافد ثقافية هي مفتاح فهم تناقضاته.
وهي: الحضارة الرومانية، والحضارة اليونانية، والعقيدة المسيحية.
ثلاثة روافد: وحشية، فلسفية، روحية.
في أوروبا وفي قلب عاصمتها التاريخية روما تجد الكوليسيوم رمز عظمة روما وأيقونتها وأكبر آثارها، أثر لا مثيل له في وحشيته، حيث المسرح المقام ليتصارع فيه إنسان ضد إنسان أو إنسان ضد حيوان مفترس حتى الموت وسط صيحات الاستحسان والتشجيع والتصفيق من جمهور المشاهدين!
وكما تجد الكوليسيوم بوحشيته، تجد آثار اليونان الموروثة من تماثيل تتغزل بالحجر والرخام في الجسد الإنساني العاري، مضحية بأي قيد أخلاقي في سبيل إبراز الجمال، ووراء كل تمثال قصة وأسطورة وفلسفة.
وبين هذا وذاك الكنائس تزين الميادين وتتوسط المدن.
هذا الثالوث الذي يبدو متناقضاً امتزج في حضارة الغرب الحديثة وشكل عقل الإنسان الأوروبي، وتستطيع أن تستكشف نموذجه الأبرز في تكوين العالم الجديد الذي صنعه المهاجرون الأوروبيون في أمريكا.
الغالبية العظمى من المهاجرين الأوروبيين إلى الأرض الجديدة كانوا من المسيحيين المتدينين، كانوا يحلمون ببناء مجتمع ديمقراطي حر مستلهمين حكمة وفلسفة الحضارة اليونانية، وفي سبيل ذلك حولوا الأرض الجديدة لكوليسيوم روماني جديد، صارعوا فيه أهل البلاد الأصليين وأبادوهم، ولم يكتفوا بذلك؛ بل اقتنصوا من أفريقيا رجالاً ونساءً وأطفالاً وساقوهم عبر البحار مقيدين في الأغلال ليؤسسوا مجتمعاً طبقياً رومانياً يؤدي فيه العبيد الأفارقة مع سكان البلاد الأصليين دور العبودية في خدمة السيد الروماني اليوناني المسيحي.
تخيل أن هذا الثالوث (الوحشية والفلسفة والروحانية) موجود بالرموز ذاتها داخل مقر أعلى سلطة روحية للعالم المسيحي الكاثوليكي في الفاتيكان، في تلك البقعة الصغيرة تقع ساحة وكنيسة القديس بطرس وكنيسة سيستين ومتحف الفاتيكان.
الصلوات والترانيم في كنيسة القديس بطرس، والصور العارية من موروثات الفن اليوناني ممزوجة بقصص العهد القديم برسم “مايكل أنجلو” في سقف وحوائط كنيسة سيستين، في مشهد من العُري يستحيل أن ترى مثله في كنيسة شرقية.
وغير بعيد في متحف الفاتيكان وعلى خطى وحشية الرومان تجد تمثالاً يحمل سيفاً بيدٍ وفي الأخرى رأسا مقطوعاً تصويراً لأسطورة بيرسيوس وميدوسا!
شيء مدهش وامتزاج عجيب بين ثالوث متناقض.
ولكن هذا الثالوث المتناقض هو من شَكَّل الحضارة الغربية الحديثة وشَكَّل عقلية الإنسان الغربي المعاصر.
وهو ما يفسر لك مجتمعاً ديمقراطياً يحترم حقوق مواطنيه، ويعتبر نفسه نادياً مسيحياً، ويمارس ضد غيره تلك الوحشية التي يخجل منها أشد الحيوانات افتراساً!