يشهد العالم تحولات كبيرة في العلاقات الإنسانية، وتتوالى الجهود الفكرية والثقافية نحو تحقيق التعايش السلمي بين الأمم والمجتمعات، وتجاوز الحواجز المصطنعة التي تحول بين الناس وفطرتها السليمة التي خلقها الله على حب السلام لا الكراهية، والجمال لا الفوضى والعبث، لقد خلق الله الناس ليتعارفوا لا ليتقاطعوا، ويتعاونوا على صالح الأعمال.
وإننا نرى شعوب الأرض قاطبة ترنو ببصرها دوما نحو التسامح والعيش بلا أحقاد أو نزاعات؛ فالصراع في العلاقات الإنسانية حالة استثنائية يتحمل وزرها أباطرة المال والسياسة، وأصحاب المطامع والمطامح، ومن هَيجوا الجماهير بالخرافات والأكاذيب قديما وحديثا.
ونحن في هذا المقال لا نريد أن ننكأ جرحا نتطلع للشفاء منه، إنما نبحث عن طرق لتجاوز هذه الصفحات، وطي هذا التاريخ بعد استلهام العبرة لبناء المستقبل المشترك لمسلمي أوروبا مع قومهم.
نعم وقع صدام تاريخي بين الشرق والغرب منذ القرن السابع الميلادي، وأخذ أشكالا وطرقا مختلفة، ووصل الأمر ذروته بقرار اجتياح الشرق فيما عرف بالحملات الصليبية لقرنين من الزمان، سجل التاريخ فيهما انتهاكات بشرية واسعة. وقد نجحت مقاومة الشعوب في رد هذه الحملات أخيرا، ولم يلق جنود الفرنجة من المسلمين المعاملة بالمثل عند خروجهم، وقد سجلت الكاتبة الألمانية المعروفة “زيجرد هونكة” في كثير من صفحات كتابها: “الله ليس كذلك” شهادات كثيرة من قادة الحملات عن الانتهاكات التي ارتُكبت بحق المسلمين، ووثقت كذلك قصص عن أخلاق الفرسان التي تميز بها المسلمون.
فترات السلام بين الشرق والغرب
لقد سادت فترات نَعِم فيها الشرق والغرب بالسلام والتعايش والتبادل الثقافي، لكن للأسف فإن تلك الفترات لم تأخذ حيزا كافيا من الكُتَّاب، لذلك تشكلت الذهنية الإسلامية والمسيحية غالبا على أن العلاقة فقط بين الشرق والغرب كانت صراعا وحروبا، وهو غير صحيح، غير أن حقبة الاستعمار الجديدة مع أواخر القرن الثامن عشر للعالم العربي والإسلامي وما خلفته من نتائج تركت آثاراها النفسية والفكرية التي تظهر في بعض الأحول، منها: عندما تتحيز بعض الحكومات الأوروبية ضد قضايا العالم الإسلامي، مثل أحداث الربيع العربي، وقضية فلسطين ومعاناة أهلها، كذلك يشكل تصاعد اليمين المتطرف وخطابه الإقصائي والعدائي ضد المسلمين في أوروبا تحديا أمام تجاوز هذا الإرث.
ماذا عن رد المجتمع الألماني على دعوات الكراهية من قبل اليمين المتطرف كنموذج؟
شاهدنا المظاهرات الحاشدة في العديد من المدن الألمانية تندد بالخطاب اليميني المتطرف، بيد أن المقلق أن هذا التيار يتقدم بشكل سريع، وما كان يهمس به في الحجرات المغلقة أصبح حاضرا وظاهرا.
لكن علينا جميعا أن نتكاتف في مواجهة كل دعوات العنصرية وكل محاولة تستهدف استباحة قيم الحرية والمساواة وكرامة الإنسان.
وماذا عن الخطاب الإسلامي؟
لم يسلم الخطاب الديني عند بعض الدعاة على الساحة الأوروبية من استحضار فترات الصراع والصدام التاريخي بين الشرق والغرب وتنزيلها في واقع زماني ومكاني مغاير ومختلف، وأذكر في هذا السياق خطاب بعض الدعاة عند حضوره مثلا لإسبانيا، خاصة لو ألقى خطبة الجمعة في مدن بلنسية أو إشبيلية أو قرطبة أو سرقسطة، عندها يتذكر التاريخ الماضي حيث الحضارة الإسلامية التي دامت ثمانية قرون، وفي غفلة عن سنن الحياة ينادى بعبارات تبعث الخوف من المسلمين، مثل: “إننا عُدنا مرة أخرى، وإننا سنعيد الحق المغتصبا”! وشبه ذلك، وهذا خطاب يجلب المتاعب لمسلمي إسبانيا، وكم عانى منه المسؤولون عن المؤسسات الإسلامية هناك.
وإلى عهد قريب كان الدعاء على بعض المنابر بعموم الهلاك وتيتيم الأطفال وترميل النساء وتجميد الدم في عروقهم، وانعكس ذلك الخطاب على تصرفات فئة من الشباب ترى في المجتمع الأوروبي العداوة والبغضاء، ومن ثم الدعوة إلى المفاصلة، ولم تبخل علينا بعض الفتاوى العابرة للقارات من تعميق الفجوات وصناعة الأزمات.
السؤال الآن: كيف نتجاوز هذا الإرث وآثاره على التعايش السلمي داخل المجتمع الأوروبي؟
نجمل القول في هذه النقاط التالية:
- نحن -مسلمي أوروبا- ننتمي للإسلام دينا، ولأوروبا وطنا، وللأمة الإسلامية برابطة العقيدة، وللعالم نسبا، ونرى هذا العالم -كما يقول المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة في مقدمة كتابه في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام- “منتدى” ثقافات وحضارات وشرائع وملل ونحل وفلسفات وأمم وشعوب وقبائل وأجناس وألوان ولغات وقوميات.
ويريد المسلمون لأعضاء هذا المنتدى الإنساني “التفاعل” فيما هو إنساني عام و”التمايز” فيما هو من الخصوصيات الثقافية والعقدية والفلسفية…
وذلك لتحقيق مقاصد التعارف والتعايش والتعاون على البر والتقوى.
- إبراز الجوانب الإيجابية في العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب، وبيان ما قدمته الحضارة الإسلامية لأوروبا من علوم وفنون مما كان سببا رئيسا في نهضتها الحديثة، وكذلك ما قدمته الحضارة الأوروبية للعالم الإسلامي في العصر الحديث في الجانب العلمي والإداري، كما ذكر ذلك الدكتور عبد المجيد النجار في بحثه “ترشيد الخطاب الديني من أجل العيش المشترك”.
- يجب أن نُعبر جميعا عن رفضنا للظلم والعدوان على الأبرياء، وأننا لن نقف يوما مع الظالم ضد المظلومين في كل مكان، وعلينا التأكيد على قيم الحق والعدل والعمل على ترسيخهما حول العالم، ودعم حق الشعوب في الحرية والكرامة الإنسانية.
- علينا أن نميز بين سياسات بعض الحكومات المنحازة ضد قضايا المسلمين خارج أوروبا وبين الشعوب؛ فمعارضتنا لبعض التوجهات لا تعني كرها للوطن أو خصومة لبني وطننا.
إننا حينما نعارض قرارا أو سياسة داخلية أو خارجية، فهو من منطلق حق المواطنة والحرية في التعبير والحرص على نصرة القيم الإنسانية، كما أننا نريد لأوروبا أن تحمى قيمها التي ناضلت من أجلها طويلا.
- إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وإن مساحة المشترك الإنساني واسعة، والالتقاء على القواسم الواحدة واجب الوقت، والتحديات التي تواجه المجتمع الأوروبي كثيرة وكبيرة، ويمكن أن نتعاون ونعمل يدا بيد لخير المجتمع والإنسانية.
- علينا أن ندرك جيدا أن كثيرا من المؤسسات الحكومية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني الأوروبية تبذل جهودا من أجل دعم سبل التعايش والتواصل والانفتاح على مكونات المجتمع، وفي مقدمتهم المسلمون، وعلينا أن نسعى للشراكة الفاعلة والعمل المشترك من أجل مستقبل ينعم فيه الجميع بالإخاء والسلام.
________
* رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا.