أنتجت الحضارة الغربية مفهوم «وقت الفراغ» الذي ترادف عندها ببُعد آخر وهو «البطالة» (عدم القيام بأي عمل نافع للنفس أو الآخرين)، ومن ثم يكون هذا «الوقت» مجرد مجال للاستهلاك والتخلص منه أو «قتله» –كما يقول البعض- عبر مسارات حددتها تلك الحضارة في ذات الوقت يطلق عليها «اللهو»، «واللعب»، التي تمتد إلى الانغماس في الملذات والخروج على السوية النفسية والاجتماعية في كثير من الأوقات، كما نلاحظها في الحضارة الغربية أو المتشبهين بها من المسلمين.
لقد أتاحت تلك الحضارة مساحات واسعة من الوقت للإنسان المعاصر بهدف استغلالها في الاستجابة لإحدى النزعات التي أسست لها تلك الحضارة، وهي نزعة الاستهلاك؛ أي تصريف منتجاتها المادية وما تحمله من أبعاد قيمية وأخلاقية الذي لن يتم –هذا التصريف- بالشكل الأمثل له إلا في تمدد مساحات «وقت الفراغ» عند الإنسان.
ومن ناحية أخرى، فإن إشكالية «وقت الفراغ» تمثل أهمية كبيرة للمجتمع العربي ولقاعدته البشرية الكبرى فيه؛ وهي الشباب، وتبدو هذه الأهمية من عدة وجوه:
أولها: حالة الفراغ القيمي والفكري الذي تشهده المؤسسات التربوية والإعلامية، واعتمادها بصورة أساسية على المنتوجات الغربية الفكرية والقيمية، بما يؤثر في بناء الشخصية العربية بالسلب والاستلاب في مقابل الهوية والأصالة.
ثانيها: غياب القيادات الفكرية الشبابية التي يمكنها أن تمثل القدوة الحية للشباب؛ بما يجعلهم أكثر قابلية للنفور من هذه المنتوجات الغربية، بالإضافة إلى غلبة السطحية والتغرب على العقل الجمعي للمجتمع العربي والإسلامي؛ اجتذاباً لقدوات خارج إطاره الثقافي والفكري، حتى وإن كانوا يحملون جنسيته وديانته.
ثالثها: غياب المشروعات الفكرية الحضارية الوطنية أو القومية أو الأمتية في الوجود المادي، التي من شأنها توظيف طاقات الشباب في مجال الزمن بما يفيد حالة الأمة والمجتمع والوطن.
رابعها: تراجع قيمة «الفكرة» في العالم العربي الإسلامي، وإعلاء قيمة «الأشياء»؛ وهو ما يؤثر في البناء النفسي للشباب بالانصراف عن مجال التأمل العقلي في واقع حياته إلى اللهث وراء مستجدات اللهو والعبث غير المبرر وغير المستقيم الذي تفننت الحضارة الغربية المعاصرة في إبداعه وإنتاجه.. وهذا ما يدعو إلى طرح هذا الموضوع ومناقشته.
إعادة بناء العلاقة
إن قوة الشباب التي يمتلكها العالم العربي والإسلامي- التي تمثل تقريباً 60% من سكانه- يمكنها أن تحقق نقلة حضارية سواء على مستوى المجتمعات القطرية أو الإقليمية أو الأمة كلها، إذا أُحسن البناء النفسي والاجتماعي لهذه القوة، وفي ضوء ذلك، فإننا يمكن أن نشير إلى أن إشكالية وقت الفراغ لدى الشباب في عالمنا العربي والإسلامي تتطلب إعادة البناء في عدة دوائر مترابطة، وهذه الدوائر هي: دائرة وقت الفراغ والفراغ الفكري، ودائرة وقت الفراغ واضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية، ودائرة وقت الفراغ/ الشباب وحاجات المجتمع ومتطلباته.
– فيما يتعلق بالدائرة الأولى: وقت الفراغ/ والفراغ الفكري:
تبدو هذه الدائرة من أخطر الدوائر التي يمكن أن يتعرض لها الشباب، فالجمع بين الاثنين (الفراغ في الوقت، والفراغ في الفكر) يؤدي في كثير من الأحوال إلى الانحراف السلوكي أو الفكري أو الأخلاقي في مجال الوقت الذي لا يجد الشباب بداً من استهلاكه أو «قتله»، على حد تعبيرهم.
وإعادة بناء العلاقة في هذه الدائرة يتطلب أمرين أساسيين؛ الأول: قيام المؤسسات التربوية والاجتماعية بدورها في البناء الفكري الذي يتوافق مع كليات الإسلام ومقاصده، بحيث يمثل هذا البناء الفكري عاملاً من عوامل الدافعية الحضارية أولاً، ثم عاملاً من عوامل الوقاية الحضارية ثانياً.
ومن أهم الموجهات الكلية لتحقيق البناء الفكري القائم على أصول الإسلام وحضارته ومقاصده:
1- التأكيد على محور «التوحيد» كجوهر للبناء الفكري.
2- إحياء العلاقة بين عالمَي «الغيب والشهادة» في التكوين النفسي والأخلاقي للشباب.
3- جوهرية الإطار الأخلاقي لحركة تربية الشباب ونشاطه.
الأمر الثاني: إحياء المسؤولية الاجتماعية والحضارية في نفوس الشباب، كي يتحمل مسؤولياته عن حالة مجتمعه ووضعه ومكانته، ودوره في حل مشكلاته وتطوره ومعالجة الآفات والأمراض المتوطنة في مجتمعه.
– فيما يتعلق بالدائرة الثانية: وقت الفراغ واضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية:
يؤدي اضطراب شبكة العلاقات الاجتماعية وانقطاع التواصل القيمي بين الأجيال إلى بروز ظاهرة «الصراع»، فالجيل الجديد من الشباب الذي ينشأ على قاعدة اجتماعية مضطربة تغيب فيها الفكرة والمشروع، والقدرة على توظيف الطاقات إلى حد اعتبار الشباب مشكلة تضاف إلى المجتمع وليست حلاً لمشكلاته، ويبدو ذلك في انقطاع التواصل الثقافي في الفضاء الاجتماعي المضطرب، يعطي للشباب فرصة سانحة للانحرافات السلوكية الأخلاقية والخروج والتمرد على طرائق وثقافة المجتمع، ويجنح إلى العبث القيمي والسلوكي الذي أبدعته الثقافة الغربية في إطار مذاهب وتيارات العبث التي أخذت بالانتشار في ظل تمدد ظاهرة الإنسان الطبيعي وغياب قيمية الإنسان المستخلف.
إن إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية وإعادة مفهوم التقاليد والقيم والتراث، وإعادة مكانة الشباب في حركة المجتمع، وتقدير المجتمع لتلك المكانة التي يصاحبها في وجهها الآخر فكرة الدور الذي يناط بذلك العضو المؤثر في المجتمع، من شأنه أن يعيد ترتيب العلاقات الاجتماعية في المجتمع من جهة، والبناء النفسي المتوازن للشباب من جهة أخرى؛ بما يخلق حالة من الثقة بالنفس والشعور بالقيمة والمسؤولية، والرغبة في المشاركة المجتمعية والحضارية بدوافع اجتماعية وأخلاقية يفرزها البناء الاجتماعي، وشبكة العلاقات المتوازنة في المجتمع.
– فيما يتعلق بدائرة وقت الفراغ وحاجات المجتمع ومتطلباته:
تعاني مجتمعاتنا العربية والإسلامية من مشكلات عديدة في حاجة إلى حلول اجتماعية عاجلة ومبدعة، ومن أهم هذه المشكلات الأمية –على سبيل المثال والأهمية- وبينما تغيب الحلول الجادة والناجعة لحل هذه المشكلة، تبدو الحاجة إلى دور الشباب الجاد والفاعل فيما طرحه منذ سنوات من أفكار المبادرات المجتمعية التي تشخص مشكلات المجتمع وتطرح مبادرات لحلها في ضوء إمكانيات متاحة، وفي مساحات وقت، التي يطلق عليها «وقت الفراغ»، وهذه المبادرات في حاجة إلى تجديد وتفعيل وتطوير، من خلال رؤية شاملة تُسَكِّن حاجات المجتمع ومتطلباته الاجتماعية في خارطة «وقت الفراغ» للشباب العربي التي تمتد مساحتها لملايين الساعات يومياً!