– دحمان: تجربة التعليم عن بُعد كشفت العيوب الهيكلية والبنيوية للنظام التربوي العربي
– عديلي: لا يمكن إلغاء التعليم الحضوري كلياً لأن العملية التربوية هي عملة إنسانية في المقام الأول
– سكتو: للأسرة مسؤولية عظيمة في إنجاح هذا النوع من التعليم من خلال الوعي بأهميته واستيعاب متطلباته
أحدث فيروس كورونا المستجد رجة عميقة في بنى المجتمع ومؤسساته، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الصحة أو العلاقات الاجتماعية أو غير ذلك، ودفعت الجائحة العالمية الدول والحكومات إلى اتخاذ إجراءات احترازية أحد أهم أركانها التباعد الجسدي.
وكان لهذا الفيروس المستجد التأثير الواضح على التعليم، بما له من خصوصية، إذ لم يجد المسؤولون بداً من استمراره إلا عن بُعد في ظل الجائحة، وبالوسائل التقنية المتاحة، ووسط إكراهات ومشكلات.
في سياق ذلك، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الندوات المباشرة بالحديث عن هذا النوع من التعليم، علت فيها الأصوات داعية للاستفادة من مميزاته وتلافي سيئاته، ومدى إمكانية دمجه أو تناوبه مع التعليم الحضوري.
اختيار اضطراري
يرى المسؤول بالمرصد المغربي للدراسات والأبحاث التربوية عبدالإله دحمان أن اعتماد التعليم عن بُعد اختيار اضطراري، أملته التطورات السريعة لجائحة كورونا، وذلك لتحصين وضمان استمرار تمتع المتعلمين بحقهم في التربية والتكوين.
وأبرز دحمان، في تصريح لـ”المجتمع”، أن تجربة التعليم عن بُعد لم تشهد فقط مشكلات وتحديات، بل كشفت العيوب الهيكلية والبنيوية للنظام التربوي العربي ومدى فعالية أنموذجه التقليدي الذي يعاني أصلاً.
فهذه التجربة فرضت تحديات وأفرزت إشكالات مرتبطة بسؤال إعادة التأهيل والتجهيز والتطوير والتجديد في النموذج البيداغوجي والتربوي المواكب للتحولات الرقمية وولوج عصر اقتصاد المعرفة وإنتاجها.
وأكد المتحدث ذاته أنه يجب التفاعل مع كل الأسئلة التي تطرحها هذه التجربة في إطار تقييم أولي يقارب الآثار والتداعيات التي تمس واقع المنظومة التربوية العربية، وبالتالي نأمل أن تتحول مواصفات المدارس العربية المعاصرة إلى مواصفات مدرسة المستقبل التي تعتمد على برامج التعلم في بيئات تقنية وأخرى افتراضية، حيث تعد التقنيات التربوية قوامها الرئيس.
وأضاف أن هذا الأمل لن يتحقق قبل سلسلة من خطوات التهيئة والإعداد والتخطيط والتأهيل والتدريب وتوفير التجهيزات الضرورية، فالمشوار لا يزال طويلاً، إلا أن إمكانية تحقيق الحلم التربوي متاحة وليست مستحيلة خاصة في ظل التوجهات الوطنية على المستوى العربي نحو الحكومة الإلكترونية والتعليم الإلكتروني ودعم الأبحاث والتقنية وتكوين مجتمع المعرفة.
تناوب
في المقابل، يرى عضو لجنة التعليم بمجلس النواب المغربي حسن عديلي أن التحول الرقمي يجب أن يكون مدروساً، مؤكداً أنه لا يمكن إلغاء التعليم الحضوري كلياً؛ لأن العملية التربوية هي عملة إنسانية في المقام الأول، وأن المدرسة هي مؤسسة للتنشئة الاجتماعية والقيمية والتربوية والفكرية والمهارية، وهذه العملية تواصلية مباشرة خاصة بالنسبة للصغار.
لذا، فهو يرى أن التعليم في المستقبل هو ذلك الذي يدمج النوعين معاً، بما يتيحه التعليم عن بُعد من استثمار للتكنولوجيا الحديثة للانفتاح على المساحة الواسعة للمعرفة وتوفير الجهد والوقت، وبما يضمنه التعليم الحضوري من التأكيد على القيم والتفاوض حول المعرفة وتبادل التجارب مع الأقران والأستاذ.
ويلاحظ المتحدث ذاته، في تصريح لـ”المجتمع”، أن التعليم عن بُعد لا يمكن أن يرتبط بتحويل الحوامل الورقية إلى حوامل رقمية كما لوحظ خلال التجربة إبان أزمة الجائحة، في حين أن هذا النوع من التعليم في العمق سيناريو بيداغوجي متكامل، له سماته وشروطه وآلياته ومقوماته البيداغوجية وأساليبه التربوية ومقاربات عمل الأساتذة عن بعد في شموله، بدءاً من وضع خطط التدريس، وتتبع الحالات الفردية، ووضع حلول الدعم والتقوية.
ويؤكد البرلماني، في سياق ذلك، أهمية إحداث ما سماه المدرسة الرقمية أو الجامعة الرقمية، وهي مرتبطة بالمشروع الأكبر للتعليم الإلكتروني، تكون مهمتها إنتاج الموارد الرقمية، ووضع البدائل البيداغوجية، لمساعدة الأستاذ في عملية التعليم عن بُعد.
تحول رقمي
بدوره، يرى الباحث والكاتب العام للهيئة الوطنية لأطر التخطيط التربوي بالمغرب المصطفى سكتو أن التحول لنظام التعليم عن بُعد هي مسألة صعبة وجدّ مكلفة بالنسبة لكل بلد، ودونها مراحل ومتطلبات.
ويمكن أن نجمل التحديات الرئيسة لهذا التحول في ثلاثة أمور، حسب تصريح الباحث لـ”المجتمع”، الأول يتعلق بتوفير بنية تحتية تكنولوجية مناسبة، إذ من المفروض أن التعليم عن بُعد يتم بشكل كامل عبر الإنترنت أو عبر وسائط التواصل التناظرية، وهذا يقتضي وجود بنية مادية مواتية لربط المتعلم بالمدرس، من جودة في شبكة الإنترنت وتوافر أجهزة إلكترونية كالحواسيب والهواتف أو اللوحات الذكية أو أجهزة التلفاز، وكذلك في الجوانب البرمجية نحتاج لمنصات متخصصة في التواصل التربوي ونشر الموارد الرقمية.
ويبرز الباحث أن هذا الأمر الذي يتفاوت طبعاً بين الدول العربية والإسلامية، فهناك من لديهم بنية تحتية تكنولوجية متطورة وعكسها بلدان أخرى تعاني من فجوة رقمية بالغة أو التي تعيش حالة نزاع مسلح؛ والأمر يتفاوت كذلك بين التعليم المدرسي والجامعي، إذ إن التعليم الجامعي يشتغل بالتعليم عن بُعد كعنصر أساسي لبرنامج التكوين العالي، بينما الفئات الصغرى ما زالت بعيدة عن اعتماد هذا الشكل من التعليم في أغلب البلدان.
تحدٍّ بيداغوجي
يؤكد الباحث سكتو أن الأمر الثاني وهو التحدي البيداغوجي والديداكتيكي، إذ إنه في التعليم عن بُعد المدرس ليس مطلوباً منه نقل المعلومة فقط، بل التفاعل كذلك وتيسير العملية التعليمية التعلمية، وهذا يقتضي من المدرس ملاءمة طرقه البيداغوجية وأساليبه الديداكتيكية لهذا النوع من التدريس وامتلاك مهارات صناعة الموارد الرقمية والتنشيط عن بُعد.
ويبرز الباحث أن الأمر الثالث والأخير هو عنصر جد محدد في نجاح التعليم عن بعد ألا وهو دور الأسر، هذا الأمر الذي لمسناه في تجربة التعليم عن بُعد خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا، ذلك أن للأسرة مسؤولية عظيمة في إنجاح هذا النوع من التعليم، من خلال الوعي بأهميته واستيعاب متطلباته للمتعلمين من أبنائها، كتوفير التجهيزات والمراقبة والتتبع المستمر والمساعدة والتفاعل مع المدرسين، وكذلك إبداع برامج موازية لتحفيز الأبناء على الاستمرار في التعلم.
مزايا وسلبيات
على الرغم من كل التحديات، يبقى للتعليم عن بُعد العديد من المزايا، يضيف الباحث سكتو، مثل الانفتاح على المقدرات المعرفية الموجودة عبر الإنترنت، وكذلك تربية المتعلمين على الاعتماد على النفس في البحث والتقصي على المعلومة والتكوين الذاتي.
ويضيف أن الدول العربية والإسلامية التي لم تعتمد بعد هذا النمط في التعليم بإمكانها الاستفادة من تجارب بلدان سابقة في هذا المجال، ولكن يبقى أول الطريق هو العمل على تهيئة البنية التحتية التكنولوجية، وإطلاق برامج لتكوين الأطر التربوية والإدارية في هذا المجال، وكذلك توعية الأسر بأهمية هذا النوع من التعليم ونشر ثقافة الرقمنة في المجتمع.