أعلن في موريتانيا، فجر الإثنين الماضي، عن وفاة الرئيس الموريتاني الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عن عمر يناهز 82 عاماً (1938-2020)، وبهذه المناسبة الأليمة أعلنت الرئاسة الموريتانية عن حدادٍ لمدة ثلاثة أيام على عموم التراب الوطني، وأدى الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني مع آلاف الموريتانيين صلاة الجنازة على روح الرئيس الراحل بمسجد ابن عباس وسط العاصمة نواكشوط.
لم تتحدث وسائل الإعلام الموريتانية بشكلٍ مفصلٍ عن سبب وفاة ولد الشيخ عبد الله، ولكن من المعلوم أن الرئيس الراحل كان يتعالج في تركيا منذ حوالي شهرين، وقد وافاه الأجل المحتوم بعد أسبوع من عودته إلى موريتانيا من رحلته العلاجية، ثم ما لبث أن تعرض لوعكة صحية مساء الأحد الماضي نقل على إثرها إلى عيادة خاصة في نواكشوط فتوفي فجر الإثنين رحمه الله.
من كرسي الرئاسة إلى الإقامة الجبرية
ينحدر الراحل ولد الشيخ عبد الله من أسرة دينية تسكن في مدينة “ألاك” شرقي العاصمة نواكشوط، تلقى تعليمه الإعدادي – الثانوي بين موريتانيا والسنغال، ثم سافر إلى فرنسا ليكمل دراساته العليا حيث حصل على دبلوم الدراسات المعمَّقة في الاقتصاد، ثم عاد إلى موريتانيا فتولى عدة مناصب، مثل وزير التخطيط والمناجم، ووزير الاقتصاد، ووزير التنمية، كما عمل مستشاراً في الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية.
يعتبر ولد الشيخ عبد الله الرئيس السابع للجمهورية الإسلامية الموريتانية، لكنه يعد أول رئيس مدني منتخب في التاريخ السياسي للبلاد، وقد تم انتخابه رئيسا لموريتانيا عام 2007 من خلال انتخابات حرة نزيهة، لكن ولد الشيخ عبد الله لم يستمر طويلاً في كرسي الرئاسة، إذ تمت الإطاحة به بتاريخ 6 أغسطس 2008 عن طريق انقلاب عسكري قاده الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز (عزيز) ورفيقه سلاحه الرئيس الموريتاني الحالي محمد الشيخ ولد الغزواني (غزواني) بسبب خلاف يتعلق بالمناصب والنفوذ كان سيؤدي إلى إقالة هذين الجنرالين (عزيز) و(غزواني)، فقرَّرا استباق الأحداث وقاما بانقلاب عسكري على الرئيس المدني المنتخب، وبذلك تم إجهاض أول تجربة ديمقراطية في تاريخ موريتانيا.
وبعد نجاح الانقلاب العسكري المفاجئ، بدأ الرئيس المنتخب يتعرض لمضايقات عديدة من الانقلابيين لإرغامه على التخلي عن السلطة، تمثلت في خطفه من منزله ونقله من الرئاسة إلى الإقامة الجبرية، ليستقرَّ في مسقط رأسه قرية “لمدن” خارج العاصمة نواكشوط، فيظل بعيداً عن الشأن السياسي المحلي حتى وافاه الأجل المحتوم فجر الإثنين الماضي، ليبكيه الموريتانيون بكل أطيافهم وألوانهم وتوجهاتهم.
رائد التنمية الاقتصادية والاجتماعية
نظرا لخلفيته الاقتصادية ووعيه بالحالة الاجتماعية المعقَّدة في موريتانيا، كان ولد الشيخ عبد الله يعي جيدا ضرورة التركيز على حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية العالقة من أجل البدء في بناء دولة المؤسسات، لذلك قام فوراً بسنِّ قانونٍ لمحاربة الاسترقاق والغبن والتهميش والإقصاء، ووفَّر الظروف لعودة اللاجئين والمبعدين في السنغال ومالي، ودعا إلى إتاحة الفرص أمام جميع الموريتانيين بكل أطيافهم، وتقوية اللّحمة الاجتماعية والابتعاد عن النزاعات العرقية والقبلية والأيديولوجية.
وفي تصريح خاص بـ “المجتمع”، قال عبد الله ممادو با، المستشار الإعلامي للرئيس الراحل ولد الشيخ عبد الله: “بوفاة الرئيس ولد الشيخ عبد الله، فقدت موريتانيا ثاني أكبر رئيس في تاريخها بعد الرئيس الراحل المختار ولد داداه، فالرئيس ولد الشيخ عبد الله كان رجلاً ثاقبَ البصيرة مجرباً ومحنكاً وهادئاً وحكيماً، لذلك عندما تولى مهامه كرئيس للجمهورية قام باتخاذ قرارات سياسية جريئة من أجل إعادة ترميم البيت الموريتاني من الداخل”.
وبمجرد الإعلان عن وفاة ولد الشيخ عبد الله، بدأت الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية في موريتانيا تقديم برقيات التعازي والمواساة في وفاة أول رئيس مدني منتخب تعرفه البلاد في تاريخها السياسي المليء بالانقلابات العسكرية، التي حطَّمت الكثير من أحلام الموريتانيين قديماً وحديثاً، ولا تزال تشكل كابوساً يؤرِّق مضاجع المواطنين.
الرئيس العابد الحصيف المستقيم
على المستوى العلمي والفكري، توالت برقيات التعازي في وفاة ولد الشيخ عبد الله، إذ عبرت مجموعة من الشخصيات العملية والفكرية والسياسية في موريتانيا عن حزنها وأسفها بمناسبة وفاة الرئيس المدني المنتخب، حيث تقدم العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو، رئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا، بتعزية وصف فيها الراحل بـ “الرئيس العابد المستقيم، ذي الخلق الرفيع والرأي الحصيف”.
وفي تغريدة له على “تويتر”، قال أحمد ولد إسلم، صحافي موريتاني بقناة الجزيرة، إن ولد الشيخ عبد الله “كان عفّ اللسان، عميق الرؤية، أجهض أغبياء العسكر حكمه المدني قبل بلوغ العامين، فتنازل حقناً لدماء شعبه”، فيما أكد المفكر الإسلامي محمد جميل منصور أن ولد الشيخ عبد الله “أعطانا نموذجاً حياً للرئيس المستقيم، أرانا رحمه الله رحمة واسعة كيف أن الرئيس يبقى حسن الخلق، ليِّن الجانب، يحب الخير للناس، كما أرانا أدخله الله فسيح جناته أن القائد لا يكون لغيره تبعاً، ولذلك خسر السلطة ولكنه ربح الشرعية”.
رمز التضحية السياسية في الصحراء
يتّفق الموريتانيون على نبل وزهد وتضحية ولد الشيخ عبد الله، فالرجل تربى في بيئة دينية محافظة أخذ منها مقومات الزهد والتضحية والإيثار، وقد حرص على تجسيد تلك المقومات عندما انتخب رئيسا لموريتانيا، إذ لم تؤثر عليه المناصب، ولم تدفعه حظوظ النفس إلى فعل ما لا ينبغي، بل كان حريصا على التضحية من أجل بناء دولة مدنية وتأسيس مجتمع متماسك.
وقد كتب بعض الشعراء الموريتانيين قصائد في رثاء ولد الشيخ عبد الله، منها قصيدة الشاعر والصحافي محمد ناجي ولد أحمدو التي وصف فيها الراحل بأنه “كهف العلا والمكارم”، و”منبت الفخر الصميم”، و”كعبة الأسرار”، فيما قال الشاعر أحمد سالم بن محمدن في قصيدته إن الراحل “لم يعرف لصيد البحر صيدا”، “ولم يقضم محاصيل الحديد”، “ولم يملك رصيداً باسم غير”، في إشارة إلى ابتعاده عن أكل المال العام والصفقات المشبوهة.
وفي تصريح خاص لـ “المجتمع”، قال الشاعر الموريتاني الدكتور خالد عبد الودود: “برحيل الرئيس ولد الشيخ عبدالله طُويّت صفحة مهمة من تاريخ البلد، صفحة مليئة بالحبر؛ على أن هذا الحِبر لم يستطع أن يحجب بياض تلك الصفحة الناصعة. الرئيس سيدي رمز التضحية السياسية في هذه الأرض الصحراء التي تتنكر للأوفياء وتغري العابرين وتلتهم آثارهم فكأنهم ما مرّوا؛ وإن كانت خطاهم نحوت راسخة على جبين الزمن”.
وبالإعلان عن وفاة ولد الشيخ عبد الله تكون موريتانيا قد فقدت أول رئيس مدني منتخب حظيّ باحترام واسع في أوساط الموريتانيين عامة، وتميز بقبول لافت في المشهد السياسي الموريتاني، فقد كان محل إجماع وتقدير، لذا عقد عليه الموريتانيون الكثير من الآمال باعتباره أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد، حتى فوجئوا بإزاحته عن السلطة من خلال انقلاب عسكري عام 2008، وهاهم اليوم يبكون رحيله عن الدنيا الفانية، رحمه الله.