تأسست الأوقاف في التاريخ الإسلامي من أجل تلبية احتياجات الأمة، وإن كانت في الأساس عملاً إيمانياً يطلب العبد به من ربه القربة والغفران والرحمة من الله في الآخرة، فهي فعل إيماني أخروي ودنيوي معاً.
فالوقف في العرف الإسلامي هو انتقال لأصول ملكية فردية إلى نوع من الملكية العامة بغرض تحقيق النفع في مجال من مجالات الحياة، والعمران يخص الأحياء.
النهج «التوحيدي» الذي جاء به الإسلام أرسى قاعدة إيمانية استقرت في وجدان المسلمين، وهي أن «الدنيا مزرعة الآخرة»، وهذه الدعوة نوجهها إلى أمتنا كي ينبعث فيها من جديد نمط من الوقف يتوجه إلى بناء العقل المسلم، والبنيان الثقافي والفكري الإسلامي عبر التاريخ، وهو ما أطلقنا عليه «الأوقاف الفكرية»؛ أي التي ترتبط بعالم أفكار الأمة وما يتعلق به من مؤسسات بناء، أو مراكز تفكير، أو مصادر معرفة.
لقد أكد النهج القرآني قيمتين رئيستين في «عالم العمران»، هما: قيمة القراءة؛ (اقْرَأْ) (العلق: 1)، وقيمة التفكر أو التفكير؛ (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ: 46)، وفي ذات الوقت أولى المقاصديون في الأمة عناية فائقة بمسائل حفظ العقل واعتباره من الضروريات الخمس الواجب المحافظة عليها، باعتباره مناط التكليف في الإسلام، وحرص التوجيه القرآني والنبوي للحث على تيسير كل سبل المعرفة للعقل، ومواجهة كل سبل الجمود والجهل التي تقف في سبيل ذلك، وأكدا كذلك تعزيز كل ما شأنه الوصول إلى معرفة حقيقة الأشياء ومحو ظلمة الجهل والتقليد.
في ضوء هذا المعنى، وعى المسلمون فقه «الأوقاف الفكرية» الذي يقف على بناء العقل واعتبار أن قيمة «العمران» التي وُجد الإنسان من أجلها في الأرض تتجاوز الجانب المادي إلى الجانب المعنوي والفكري في الإنسان والكون، وهو ما من شأنه أن يعلي قيمة «الفكرة» في الوجدان الإسلامي التي هي مدار النظر والعمل لحركة المسلم ونشاط الأمة.
تجسيد الأوقاف الفكرية
إن حركة الأفكار في تاريخ الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من أنشطة تعليمية وعلمية وثقافية ومعرفية، ارتبطت ارتباطاً مباشراً بالأوقاف الفكرية، وتجسد ذلك في تقديم التمويل للتعليم كاملاً من المراحل الأولى حتى المراحل العليا، حيث شمل الإنفاق الوقفي على كل عناصر المنظومة التعليمية ومكوناتها (المعلم، الطالب، الأدوات، المؤسسات التعليمية، المرافق، أماكن المبيت..)، كذلك شملت الأوقاف الفكرية توفير مصادر المعرفة المجانية للطلاب من خلال تأسيس المكتبات الكبرى التي كانت توفر مصادر المعرفة المجانية للطلاب والباحثين، ومن أشهرها في التاريخ الإسلامي: مكتبة دار الحكمة، أو بيت الحكمة، خزانة بني أمية بالأندلس، دار العلم أو دار الحكمة الفاطمية، دار العلم العامرية، خزانة الكتب الحلبية، بيت الحكمة بالقيروان، مكتبة سابور، مكتبة المدرسة النظامية.. وغيرها.
وعلى المدار التاريخي لتطور الحضارة الإسلامية وتطور العلوم والمعارف الشرعية والتطبيقية، استوجب الأمر أن تنمو معهم مؤسساتهم الوقفية التعليمية، فانتهى الأمر لتتحول المدارس الوقفية وبيوت إيواء العلماء إلى جامعات خاصة، خصوصاً في مراكز الحضارة الإسلامية بدمشق وبغداد والحجاز والقاهرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، ولعل المدرسة المستنصرية التي أنشئت عام 631هـ اتخذت أول طابع لمؤسسة جامعية إسلامية قائمة على أموال الوقف، التي كان يدرس بها العلوم الشرعية والتطبيقية والرياضية.. وغير ذلك(1).
كما وفرت «الأوقاف الفكرية» مصدراً للتمويل المجتمعي المستقل عن الدولة استقلالاً لمؤسسة التعليم والعلم التي اعتمدت على الأموال الموقوفة كلية فلم تخضع للاتجاهات السائدة في الدولة؛ بما أتاح ازدهاراً لسائر العلوم العقلية والاتجاهات الفلسفية والكلامية والمذاهب الفكرية المختلفة.
ومن التجارب الحديثة والمعاصرة في الأمة للأوقاف الفكرية التي تستخدم الوقف في المجال الفكري والمعرفي الحضاري:
1- وقف الأميرة فاطمة بنت إسماعيل (ت 1920م)، وأشهره وقف جامعة القاهرة.
2- وقف المستشار محمد شوقي الفنجري (1925 – 2013م)، وأشهره مسابقة خدمة الدعوة والفقه الإسلامي، ومنح طلاب الجامعة الأزهرية، والدراسات العليا.
3- وقف د. زهيرة حافظ عابدين (1917 – 2002م)، وأشهره سلسلة مدارس اللغات الإسلامية.
4- وقف المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1401هـ/ 1981م) الذي سجل في الولايات المتحدة الأمريكية «مؤسسة فكرية علمية خيرية مستقلة» تعمل في ميدان الإصلاح الفكري والمعرفي.
هرم الاحتياجات الفكرية للأمة
إن توجيه الوقف للمجال الفكري يتطلب بناء هرم الاحتياجات الفكرية المعاصرة للأمة، ونقترح في هذا المجال ما يلي:
1- إعداد الباحثين المنتمين للأمة، وهذا المجال نفتقد فيه الإعداد المؤطر المنتمي بعيداً عن الإعداد المتدني في الجامعات وغيرها من مراكز البحوث في الدولة العربية المعاصرة، وتمثل هذه الفئة الطاقات العقلية للأمة التي يناط بها استيعاب أفكار الإسلام وأفكار العصر، وممارسة الاجتهاد المعرفي، وبناء علوم إنسانية جديدة تسهم في حل إشكالات الأمة وأزماتها.
2- المراكز البحثية المنتمية التي تمثل ضرورة حضارية معاصرة للأمة، فالأمة التي تفتقر إلى مراكز بحثية منتمية تفقد حاضرها وكذلك مستقبلها، ويكفي أن نشير هنا إلى أن من أصل 2124 جامعة ومركز أبحاث مستقلة نشرت أكثر من 100 مقال في الدوريات المفهرسة عالمياً خلال الفترة من عام 1996 – 2008م هناك 23 جامعة عربية تظهر من بينها (أي حوالي 10%)، وفي المقابل؛ نجد في الكيان الصهيوني 7 جامعات من بين الـ806 الأولى بمرتبة وسيطة تقابل المرتبة 302، وبمتوسط 363؛ أي في حدود ما نسبته 15% الأولى في العالم، بالإضافة إلى 9 مراكز أبحاث غير جامعية بمتوسط قدره 981؛ أي أن في الكيان الصهيوني وحده 16 مؤسسة جامعية أو بحثية بين الألف الأولى في العالم، بينما ليس في مجمل الدول العربية سوى 5 أو 6 مؤسسات جامعية ما بين الألف الأولى في العالم، حسب ترتيب الجامعات بناء على الأبحاث المنشورة في الدوريات المفهرسة عالمياً في مجموعة «سكوبوس السفير»(2).
3- مجال المؤسسات الجامعية الحضارية، تلك التي تتولى تشخيص حالة الأمة، ورسم خطط النهوض من خلال الكوادر البشرية التي تقوم بإعدادها، والأفكار التي تنتجها؛ فمهمة هذه الجامعات –التي نرى أن يتوجه إليها الوقف- هي إنتاج أفكار الحضارة وتحويلها إلى قيم يمكن ممارستها في الواقع المعيش والنظم واللوائح والمؤسسات.
4- وسائط بناء العقل الجمعي؛ إن بناء النهضة قاعدته الناس، أي العقل الجمعي الذي يجب أن يكون مسانداً لحركة التغيير والإصلاح المعرفي، وهنا تظهر أهمية توجيه الوقف في مجال بناء العقل الجمعي، إما بتأسيس مراكز وسيطة تمثل جسوراً لأفكار الإصلاح في الأمة بحيث يتم ردم الفجوة بين الرواد وقاعدة المجتمع، أو بابتكار وسائل ثقافية وترويجية تسهم في سد ثغور هذا الميدان المهم.
5- مؤسسات التوزيع الفكري والحضاري، حيث يمثل أيضاً نشر الأفكار أهمية في الترويج للبناء الفكري الصالح في الأمة، وإن كانت وسائل الاتصال والتواصل الحديثة أسهمت في سرعة نقل الأفكار عبرها، إلا أن الفكرة المكتوبة ما زالت تمثل أهمية كبيرة، وينبغي أن نعيد إليها هذه الأهمية لنعيد الإنسان العربي والمسلم مرة أخرى إلى العناية بالقلم والقرطاس والتدوين والمراجعة والتأمل، وهو ما لا يتوفر في القراءة العابرة عبر الوسائل الحديثة.
هذه بعض خواطر نحو توجيه أحد عناصر الفاعلية في الأمة للإسهام في بناء نهضتها الفكرية، ويكون هنا السؤال الختامي: هل تملك الأمة قدراً من الشعور بالمسؤولية الحضارية كي تبعث من جديد فقه «الأوقاف الفكرية»، وقد عرفت الأمة التجسيد لهذا الفقه في نسق حضاري نشأ، ورشد، وشب على قيمة «اقرأ» وانبعاثاتها في الوجدان والتفكير الإسلامي الراشد؟ وهل يمكن إعادة بوصلة الوقف وتوجيهه نحو عناصر التنمية الحضارية للأمة وفق منهج مخطط ومدروس، يتجاوز الانفعالات والعاطفة اللحظية؟
________________________________
(1) انظر:
– يحيى ساعاتي: الوقف وبنية المكتبة العربية، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث، 1988م.
– جورج المقدسي: نشأة الكليات، معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب، ترجمة: محمود سيد، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، 1994م.
– سامي الصلاحات: «المال الوقفي بين العلماء والسلاطين»، مجلة كلية الدراسات العربية والإسلامية، دبي، العدد (23)، 2002م.
(2) مؤسسة الفكر العربي: التقرير العربي للتنمية الثقافية، العدد الثالث، بيروت، 2010، ص45.