أوروبا اليوم مشغولة بملف ما يسمى “بركست” Brexit أي خروج بريطانيا من الدائرة الأوروبية (سنعود إلى هذا الموضوع في المرة القادمة بإذن الله تعالى). وعلى أهمية هذا الملف، فإن المثير للانتباه هو التجاهل أو التغافل عن ملفات ساخنة، من أهمها الحريات وحقوق الإنسان التي تشهد اليوم تراجعا ملحوظا.
أين الإشكال؟ وما خلفيات وتداعيات هذا التطور السلبي؟
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان رداً على هول كارثة الحرب
لا يمكن فهم ما يحصل اليوم دون العودة إلى الماضي القريب وبالتحديد إلى منتصف القرن العشرين؛ فقد احتفل العالم في العاشر من شهر ديسمبر بالذكرى 72 للإعلان عن اتفاقية حقوق الإنسان العالمية في 10 ديسمبر 1948 بعد نهاية الحرب “العالمية” الثانية.. وللتذكير فإن تسمية هذه الحرب بـ”العالمية” فيه مبالغة من أجل التغطية على لب المشكل وهو الصراعات داخل الفضاء الأوروبي وتداعيات ظهور أيديولوجيات شعبوية مثل النازية في ألمانيا بقيادة هتلر والفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني، والشيوعية في أوروبا وفي روسيا بقيادة لينين وستالين، علاوة على الحرب الأهلية الإسبانية من 1936 إلى 1939م بين الجمهوريين ذوي الميول اليسارية وأنصار النظام الملكي بالتحالف مع الكنيسة مدعومة بقيادات عسكرية على رأسها الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي تمكن من التربع على كرسي السلطة وإقامة حكم دكتاتوري إلى وفاته سنة 1975م. كل هذه الأيديولوجيات المتطرفة تسببت في كوارث وأهلكت الحرث والنسل وأفسدت في الأرض؛ حيث لم تتوقف تداعياتها عند الدائرة الأوروبية بل تجاوزتها إلى فضاءات أخرى في العالم.
وأمام هول الكارثة الإنسانية، تداعت منظمة الأمم المتحدة لإصدار ميثاق عالمي لاحترام الحريات وحقوق الإنسان ولكن من منظور القوى الكبرى المسيطرة على المنظومة الدولية. ويتضمن هذا الميثاق 30 مادة، وفي ديباجته اعتراف ضمني بهول الكارثة التي تسببت فيها ايديولوجيات متطرفة حيث جاء فيها “ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة”. واشتهر الميثاق الأممي لحقوق الإنسان ببنده الأول “يُولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يُعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء”. وهو نفس المضمون الذي أشار إليه القول المشهور للخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل 14 قرنا “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟”
الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان
وسارت أوروبا على منوال المنظمة الأممية حيث قام مجلس أوروبا يعد سنتين بإصدار الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في 4 نوفمبر 1950 التي تتضمن 66 مادة.
وجاء في ديباجة هذه المعاهدة “إن الحكومات الموقعة أدناه، باعتبارها أعضاء في مجلس أوروبا مراعاة منها للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م.
وحيث أن هذا الإعلان العالمي يهدف إلى ضمان العالمية والاعتراف الفعال ورعاية الحقوق الموضحة به.
وحيث أن مجلس أوروبا يهدف إلى تحقيق اتحاد أوثق بين أعضائه، وأن حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتحقيق المزيد منها أحد وسائل بلوغ هذا الهدف.
وتجديدا لتأكيد إيمانها العميق بهذه الحريات الأساسية التي تعد أساس العدالة والسلام في العالم، وأن أفضل ما تصان به ديمقراطية سياسية فعالة من ناحية، وفهم مشترك يرعى حقوق الإنسان التي ترتكز تلك الحريات عليها من ناحية أخرى.
فقد عقدت عزيمتها، بوصفها حكومات لدول أوروبية تسودها وحدة فكرية ذات تراث مشترك من الحرية والمثل والتقاليد السياسية واحترام القانون، على اتخاذ الخطوات الأولى نحو التنفيذ الجماعي لبعض الحقوق الواردة في الإعلان العالمي”.
ومن بين المواد الهامة في الاتفاقية ما يتعلق بحرية المعتقد والتعبير، حيث جاء في المادة التاسعة لهذه المعاهدة ما يلي:
” 1- لكل إنسان الحق في حرية التفكير والضمير والعقيدة. هذا الحق يشمل حرية تغيير الدين أو العقيدة، وحرية إعلان الدين أو العقيدة بإقامة الشعائر والتعليم والممارسة والرعاية، سواء على انفراد أو بالاجتماع مع آخرين، بصفة علنية أو في نطاق خاص.
2 – تخضع حرية الإنسان في إعلان ديانته أو عقيدته فقط للقيود المحددة في القانون والتي تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي لصالح أمن الجمهور وحماية النظام العام والصحة والآداب أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم”.
أما المادة العاشرة للاتفاقية فقد نصت على ما يلي”:
“1- لكل إنسان الحق في حرية التعبير. هذا الحق يشمل حرية اعتناق الآراء وتلقى وتقديم المعلومات والأفكار دون تدخل من السلطة العامة، وبصرف النظر عن الحدود الدولية. وذلك دون إخلال بحق الدولة في تطلب الترخيص بنشاط مؤسسات الإذاعة والتلفزيون والسينما.
2 – هذه الحريات تتضمن واجبات ومسؤوليات. لذا يجوز إخضاعها لشكليات إجرائية، وشروط، وقيود، وعقوبات محددة في القانون حسبما تقتضيه الضرورة في مجتمع ديمقراطي، لصالح الأمن القومي، وسلامة الأراضي، وأمن الجماهير وحفظ النظام ومنع الجريمة، وحماية الصحة والآداب، واحترام حقوق الآخرين، ومنع إفشاء الأسرار، أو تدعيم السلطة وحياد القضاء”.
وعلى ذكر القضاء، فإن من أهم القرارات المترتبة عن هذه الاتفاقية إنشاء لجنة أوروبية ومحكمة أوروبية لحقوق الإنسان، بهدف ” ضمان احترام الالتزامات التي تعهدت بها الأطراف السامية المتعاقدة في هذه المعاهدة” كما جاء في المادة 19 من الاتفاقية.
سياسة العقاب الجماعي وتراجع في الخطاب والممارسة
واليوم وبعد مرور 70 سنة على إصدار هذه الاتفاقية، نتساءل أين نحن واقعيا من هذه المعاهدة نصا وروحا؟
إن المتابع لأوضاع الحريات وحقوق الإنسان يلاحظ تراجعا في الخطاب والممارسة في عدة بلدان أوروبية. واللافت للانتباه أن قضايا حقوق الإنسان محل نقاش وجدل في بعض الدول الأوروبية الغربية المحسوبة على الشق الرأسمالي. وأكثر البلدان إشكالا هي فرنسا “بلد حقوق الإنسان” وبلد الثورة التي كان شعارها “حرية ومساواة وأخوة”. وقد تابع العالم تصريحات وممارسات القيادة السياسية في هذا البلد في ملف الحرية الدينية. ولأول مرة، يُصرّح رئيس فرنسي بأن “الإسلام يشهد أزمة في العالم”، ولأول مرّة، يتم الإعداد لقانون باسم “تثبيت قيم الجمهورية” ويحمل بصمات استراتيجية رسمية لمحاربة ما عرف بـ “الانعزالية” أو الانفصالية الإسلامية”.
ويتمثل الإشكال في استخدام نوع من العقاب الجماعي ردا على أخطاء ومخالفات يقوم بها أفراد، أو جرائم قتل وعنف يقوم بها أشخاص معزولون لا علاقة لهم بالمكوّن الإسلامي الواسع الذي يعبّر يوما بعد يوم عن اندماجه في النسيج الاجتماعي بكل سلاسة ومسؤولية. من ذلك تصريح ما أعلن عنه وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان من قرار إداري بمراقبة 76 مسجداً بحجة “الانفصالية” بل تم غلق بعضها. وبالتالي منع مئات بل آلاف المصلين من حقهم في ممارسة شعائر دينهم بحرية، بحجة مخالفة بعض القائمين عن هذه المساجد لإجراءات السلامة في أماكن العبادة التي يشرفون عليها أو عدم التزامهم بقوانين تسيير الجمعيات في المسائل المالية والضريبية وغيرها. ولو توفرت الإرادة السياسية، لتم إيجاد حلول معقولة عبر التفاوض والحوار الهادف.
وفي النمسا التي شهدت هجوما إرهابيا، أعلنت الحكومة النمساوية عن حزمة إجراءات جديدة لمواجهة التهديدات الإرهابية. الإشكال هو ربط الإرهاب بما أسمته السلطات هناك بـ “التطرّف السياسي أو “الإسلام السياسي”. وبناء عليه، تم استهداف أشخاص منظمات نشطة في العمل الإسلامي رغم حملها لفكر وسطي معتدل ودعوتها للاندماج الإيجابي في المجتمع. علما بأن الإجراءات الأمنية تتضمن إغلاق المساجد والمراكز الدينية “في حال قيامها بنشر دعاية إرهابية أو محتوى متطرف” في نفس السياق، تشمل حزمة الإجراءات ما يعرف بـ “الحجز الوقائي”، حيث تنص على فرض طوق مراقبة يوضع ضد الأشخاص الذين “يمثلون تهديدا كبيرا في البلاد”، وإمكانية سحب الجنسية النمساوية منهم في حال “إدانة حاملها بتهم الإرهاب”، وسحب رخصة القيادة منهم. وهو أمر متروك لتقييم الدوائر الأمنية والتي لا تفرّق بين المعتدل والمتطرف. بمعنى أصبحت المحاسبة على الفكر وليس على الممارسة.
محكمة العدل الأوروبية وتمشّيها مع السّياق الجديد
علاوة على التصريحات الاستفزازية لمسؤولين سياسيين مثل تصريح وزير الداخلية الفرنسي الذي جاء فيه أن بيع المنتجات الحلال في أماكن خاصة بها داخل المحلات التجارية الكبرى يسبب له صدمة لأنه شكل من أشكال الانزلاق نحو الانعزالية.
في هذا السياق، يمكن إدراج قرار محكمة العدل الأوروبية الأخير بتأييد قرار إقليم فلاندرز في بلجيكا يطالب باستخدام الصعق بالكهرباء للحيوان، رافضة بذلك الاعتراضات التي قدمتها الجماعات الدينية. وبالتالي تعطي المحكمة لدول الاتحاد الأوربي الحق في استخدام أسلوب الصعق قبل الذبح لجميع الحيوانات مبررة قرارها بأن مثل هذه القواعد لا تنتهك بشكل أساسي الحرية الدينية في “الذبح الشعائري” للمسلمين واليهود، وبأنه يجب الموازنة بين الحرية الدينية وتحقيق أحد أهداف “المصلحة العامة” في الاتحاد الأوربي وهو الرفق بالحيوان عبر الصعق غير المميت.
ومثل هذا التراجع في القضاء الأوروبي يعود إلى السنوات الأخيرة التي ظهرت فيها مجموعات ضغط (لوبيات) اليمين المتطرف والشعبوية السياسية الرافضة للتعددية الثقافية خاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين بالتزامن مع مجموعات ضغط الدفاع عن حقوق الحيوان ومجموعات ضغط الدفاع عن حقوق المثليين والمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة إلى حدّ ضرب كل أشكال الاختلافات الفطرية في الإنسان. في هذا السياق، أصدرت المحكمة سنة 2014 حكماً قضائياً تمنح بموجبه الشركات الأوروبية حق منع المسلمات العاملات لديها من ارتداء الحجاب خلال العمل. ووضعت المحكمة ضوابط لحكمها القضائي، يستثني الحالات الفردية التي تصدر عن شكاوى الزبائن من الموظفات المحجبات في الشركة، وإلزام الشركات بتطبيق الحظر على الرموز الدينية كافة دون تمييز بين ديانة ومعتقد وبين آخر. وواضح من هذا القرار التأثير السياسي والأيديولوجي العلماني الذي يعتبر الحجاب رمزاً دينياً بارزا ويجب بالدرجة الأولى مراعاة مصالح أرباب العمل ولو حساب المبادئ والقيم.
ويبقى الأمل معقودا على دور المجتمع المدني وأصحاب الضمائر الحية من النخب الفكرية والسياسية في إعادة الأمور إلى نصابها وترجيح لغة العقل والحكمة على الانحرافات التي تؤدي مخاطر. وكمثال على ذلك رسالة رؤساء بلديات في فرنسا يطالبون بالتراجع عن مشروع “الانفصالية” الذي قد يؤدي إلى “الفاشية” حسب قولهم. ودور القوى الوطنية يتمثل في دعم هذا التوجه لترجيح كفة احترام الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.