في أثناء الحملة الفرنسية العسكرية على مصر والشام عام 1798م، قام الغزاة بقتل الآلاف من المصريين والشوام، ونهبوا بلادهم وصادروا ممتلكاتهم، ودنسوا مقدساتهم، ودخلت خيولهم الأزهر الأشريف، وتخلصت من روثها في صحنه الطاهر، وقضى الجنود حاجاتهم في محاريب المسجد العريق، والأعجب أن السفاح القاتل نابليون بونابرت قائد الحملة العسكرية خرج إلى الناس والمشايخ، وزعم أنه مسلم مؤمن بالله الواحد، وأنه جاء ليخلص المصريين من المماليك الأشرار!
نابليون قتل سُبْع الشعب المصري البريء (300 ألف مصري، من مجموع السكان يومها مليونان ومائة ألف)، ومع ذلك وجد من يتعاون معه، ويساند حملته البربرية الوحشية، ويعده بشير التقدم والتطور، ويتضامن معه من أجل ما يسمى استقلال مصر.
فيلق طائفي
كان هناك شخص طائفي اسمه المعلم حنا يعقوب، وكان كبير الصيارفة (يشبه وزير المالية الآن)، أي إن أموال مصر الرسمية في قبضته، ومع ذلك لم يرضه هذا المنصب، ولا تلك المكانة، وآثر أن ينضم إلى الغزاة، ويكون فيلقا طائفيا من النصارى وأروام الشام وطوائف نصرانية أخرى، وبعض المرتزقة من المسلمين، وكرنك في الرويعي، وراح يطلق مدافعه، وقنابله، ويدك بها أحياء أشقائه في الوطن، ويقتل منهم كما يقتل قائد الحملة الفرنسية، ويتحصن في موقعه الذي سوّره يالحراس والسلاح!
المفارقة أنه بعد مرور نحو قرنين من الزمان، جاء نفر من المعاصرين لتبرئة يعقوب، ومنحه لقب جنرال، وتفسير موقفه الخياني بأنه كان أول محاولة لاستقلال مصر عن الدولة العثمانية!
معنى الاستقلال
كنت أتمنى أن يكون الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، ولكن القوم يستغفلوننا، ويدلسون علينا، ويقنعوننا أن التعاون مع المحتل الفرنسي وطنية، وبحث عن استقلال الوطن!
أما الانتماء إلى الدولة الإسلامية فهو انتماء للاحتلال التركي، والعلاقة مع الأشقاء المسلمين فهي علاقة مع الغزاة والمحتلين، ويعدّون نابليون بونابرت المعتدي السفاح بشير تقدم وتنوير، ولوقتل سبع الشعب المصري، عدا من قتلهم في بلاد الشام!
الغريب في الأمر، أن السنوات الأخيرة شهدت اهتما بشخصية الخائن يعقوب من خلال الأدب، الرواية خاصة، فرأينا روايات مصرية تعالج قصة الحملة الفرنسية على مصر، وتسعى للتطبيع معها، بمعنى قبولها، والتماهي مع معطياتها بوصفها كما زعم بعضهم علاقات ثقافية! مع التركيز على إدانة المسلمين العثمانيين، وإبراز وحشيتهم، وفي الوقت نفسه وضع خيانة يعقوب بوصفها حالة وطنية استقلالية! رجل عنّ له أن يكون جيشا معظمه من طائفته، وتحصن من ورائه، ليضرب شعبه وأشقاء الوطن، ويحبس عنهم أموال الضرائب التي جمعها، ثم يلتحق بالحملة المنسحبة، ويموت في السفينة التي تقله مع المعتدين، ويدفن في أرض العدو، ولا تنتهي القصة، فيأتي من يجعله بطلا، ومؤسسا لمشروع استقلال وطني يناقشه مع المعتدين الغزاة…! ومعلوم أن مشروع الاستقلال الوطني الذي يقدمه طائفي خائن يعني أن تنسلخ مصر عن جذرها الإسلامي، وأن تلتحق بالاستعمار الفرنسي الهمجي!
هل هو من التوافق أن يكون معظم أرامل الحملة الفرنسية من الكتاب المتعاونين الطائفيين واليساريين والانتهازيين والباحثين عن المناصب والمغانم، مخاصمون للإسلام والقرآن ومعطياته؟
تكرار المشهد
في زمن التزوير والتدليس والمصطلحات الملتبسة، يتحول الحق إلى باطل، والباطل إلى حق، وتتوه القضايا الكبرى في دجل التفاصيل الصغيرة التافهة، وهذا ما يتكرر دائما في عصور القوة الغاشمة حين تفرض وجودها القهري على الضعفاء التعساء الذين لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
لقد تكرر مشهد الحملة الفرنسية بتفاصيل معاصرة حين أرغم الشعب الأفغاني من خلال جماعة طالبان قوة الاحتلال والتوحش الصليبية على إنهاء إرهابها الاستعماري الصليبي لأفغانستان المسلمة. وبعد عشرين عاما من الجهاد الدامي، وتقديم نصف مليون شهيد مسلم، لم يجد الأشرار الإرهابيون الصليبيون بدا من التراضخ للتفاوض من أجل الهرب بهزيمتهم الكبرى، ووقعوا اتفاق الدوحة للجلاء عن وطن مسلم لم يستسلم للإرهاب الصليبي المتوحش، وظل يقاوم حتى أرغم المعتدين على الرحيل، وشهد الرحيل انهيار الجيش الذي صنعوه على أعينهم وسلحوه بأفضل الأسلحة، ودخل الناس في عصر الاستقلال أفواجا، واستعاد الأفغان دينهم من المتعاونين الذين حاربوا الإسلام، وخدموا المعتدي الإرهابي الصليبي خدمة العبد لسيده في الإدارة والسياسة والصحافة والجيش والإعلام والثقافة والاقتصاد والتجارة والتعليم وغيرها من المجالات، وكان مشهد رحيل الإرهابيين الصليبيين أمام العالم معبراً عن إرادة شعب حر قاوم القتلة، بوعي صادق، وإحساس ظافر، ولم يهن أو يستسلم أمام الإغراءات أو الأكاذيب أو السلاح الفتاك.
بكاء الخونة
كان يفترض في النخب التي تقود المشاهد السياسية والإعلانية والثقافية في العالم الإسلامي أن تفرح بهذا الإنجاز العظيم لشعب مسلم تحرر من قبضة الإرهاربيين الجلادين الصليبيين، ويشارك هذا الشعب فرحته بزوال غمة الاحتلال الظالم الذي جثم على صدر البلاد الأفغانية عشرين عاماً، وللأسف الشديد فإن هذه النخب راحت تبكي الخونة أو المتعاونين مع المستعمر بلغة العصر، وتركز على بعض الحوادث الهتامشية لإدانة الحركة التي قادت التحرير، وتحميلها صناعة مستقبل أسود لأفغانستان لم تصنعه ولم تشارك فيه.
أرامل المتعاونين في أفغانستان لا يرضيهم أن تعلن طالبان أنها تغيرت عن الصورة التي صنعها الإرهاب الاستعماري الصليبي في التسعينيات، وأنها بسبيل اعتماد نظام يقوم على المشاركة الواسعة لأطياف المجتمع الأفغاني، وأنها أصدرت عفوا عاما شمل الخونة أو المتعاونين الذين فضلوا الاحتلال على الإسلام والوطن، بما فيهم الرئيس اللص أشرف غني الذي هرب بأربعة سيارات محملة بالأموال الأفغانية واستقر لدي أصدقائه المتهوّدين..
يقول أحدهم: “بعد عشرين عاماً من تراجع طالبان فى أفغانستان على وقع الاجتياح الأمريكي في عام ٢٠٠١م، ها هى تعود لصدارة المشهد بمدونة العنف التى تعتمدها، حيث تعزيز الخوف، وتعظيم الرعب اليومي.
ما الذي يمكن أن تفعله جماعة مسلحة أصرت على استخدام العنف طريقاً للوصول إلى السلطة غير القتل، والترويع، وقمع الحريات العامة؟”.
أية مدونة، وأي عنف؟ وأي سلطة وصلت إليها طالبان بالعنف؟
دون طلقة
لا أدافع عن طالبان ولا غيرها، ولكني أقرأ الواقع الذي لا يكذب.. طالبان تمثل الشعب الأفغاني في مقاومته للاحتلال الإرهابي الصليبي، وظلت تقاومه عشرين عاماً حتى ركع صاغراً يطلب الخروج الآمن في اتفاق تم توقيعه في الدوحة بين الطرفين، وقد دخلت طالبان كابول دون طلقة رصاص واحدة، والناس يمارسون حياتهم اليومية العادية دون خوف أو رعب كما يزعم الأرامل، فأي مدونة عنف كما يزعمون؟ بل إن التجمع المعارض لطالبان والموالي لدولة الاحتلال الإرهابي الصليبي في بانجشير، يتم التفاوض معه حول التسليم دون إراقة دماء، فأية أكاذيب يخترعها أرامل النظم المستبدة في عالمنا الإسلامي المنكوب؟ ثم هل قاتلت طالبان من أجل السلطة، أو تحرير بلادها من التحالف الإرهابي الصليبي الذي احتلها ودمر قراها ومدنها وقتل نحو نصف مليون من أبنائها؟
يقول آخر:
“كل العواصم (عرب وعجم وبلاد تركب الأفيال) هرعت لإجلاء مواطنيها وتأمين حيواتهم، وتركوا ملايين الضعفاء يُعمل فيهم الجلاد سيف حقده الأسود، دون أن تطرف لهم عين أو يقشعر لهم بدن.
ومن باب ذر الرماد في العيون الباكية يطلبون من الجلاد أن يترفق بضحاياه، ويرحمهم، ويؤمن حيواتهم، ويترجون منه العفو عند المقدرة، والجلاد على قناة «الجزيرة القطرية» جالس في خيلاء المنتصر، منتفخ الأَودَاج، متضخم من عب الدماء تسيل على شدقيه،….”.
كيف تصف شعبا يقاوم المحتل الإرهابي الصليبي بـالجلاد؟ ذبح من؟ وجلد من؟ وكيف تسيل الدماء على شدقيه وهو جالس في قناة تلفزيونية ولو على سبيل المجاز؟
العفو والأمن
من يحرر بلاده من الغزاة القتلة يصبح جلادا تسيل الدماء من شدقيه؟ ولماذا يملؤه الحقد الأسود على شعبه المسلم أو الخونة الذين يسمّونهم بالمتعاونين، ومع ذلك عفا عنهم وأمنهم على حياتهم، ولم تقطر منهم نقطة دم واحدة؟ هل يمكن أن نساوي هؤلاء بمن يذبحون شعوبهم، ويدمرونهم بالبراميل المتفجرة، والغازات السامة، ويسحقون وجودهم المادي والمعنوي، فيهدمون بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم، ويهجّرونهم خارج الديار، لدرجة أن بعضهم هجر نصف شعبه في المنافي وبلاد الغربة، وصادر ممتلكاتتهم وثرواتهم، وشوه بالكذب صورتهم وسيرتهم لأنهم طالبوا بالحرية والكرامة؟
في مقابلة مع «جيو نيوز»، قال القيادي البارز في طالبان خليل الرحمن حقاني: لا عداء بين الجماعة والرئيس الهارب ونائبه ومستشاره للأمن القومي، وأن المقاومة الأفغانية تسامحهم وتسامح “الجنرال الذي قاتل في الحرب ضدنا إلى الرجل العادي».
وحثّ حقاني الراغبين في مغادرة البلاد على عدم القيام بذلك، موضحًا أن «العدو» ينشر دعاية مفادها أن طالبان ستنتقم منهم. وأضاف: «الطاجيك والبلوش والهزارة والبشتون كلهم إخواننا».
تسليم مفتاح
إن حزن الأرامل على تحرير الإسلام وأفغانستان يدفعهم إلى مقولات عجيبة من قبيل: “تسليم أفغانستان لطالبان، تسليم مفتاح، جريمة ضد الإنسانية، فلا تزعموا إنسانية باسم حقوق الإنسان، والإنسانية منكم براء”. أو قول بعضهم عن زوال الاحتلال الإرهابي الصليبي:
” لا معنى لعالم يخشى الناس فيه على حياتهم ومصائرهم، ولا معنى للوجود الإنسانى ذاته دون أن يشعر الإنسان الفرد بالحرية، والأمان”
وهو قول مضحك يثير البكاء، ويدفع إلى التساؤل: كم تبلغ مساحة الحرية والأمان في بلادكم؟ ألا تستحون من مواجهة الواقع الدميم المكبل بالقيود والسدود والحكم المطلق وآلاف الضحايا الأبرياء والأسرى من الشرفاء في القيعان المظلمة؟
تعجب واستغراب
يتعجب بعضهم من استيلاء “طالبان” على معدات عسكرية قيمتها مليارات الدولارات تركتها الولايات المتحدة في أفغانستان بعد الهزيمة السريعة للحكومة الموالية لواشنطن. ويستغرب تداول صور مقاتلي “طالبان” وهم يحملون أسلحة أمريكية الصنع على نطاق واسع في وسائل الإعلام، وفقًا لتقرير “The Hill’s Rebecca Kheel”، والأسلحة تتراوح بين بنادق “M-16” إلى عربات “همفي” المصفحة، كما ورد أنه تم الاستيلاء على طائرات هليكوبتر “UH-60 Black Hawk”، وطائرة هجومية من طراز “A-29 Super Tucano”.
ولم العجب والاستغراب؟ أليست طالبان منتصرة على العدو الإرهابي الصليبي؟ أليس من حقها أن تغنم ما تركه وعملاؤه من سلاح، أم تلفها في مظاريف وترسلها على عنوانه وعناوين العملاء الخونة في أماكن هروبهم؟
لم يقتنع أرامل المتعاونين أن حركة طالبان أعلنت عن فتح باب التعليم لعموم المرأة الأفغانية، وليس للمرأة المتعاونة وحدها كما حدث في العشرين عاماً الماضية، وخروجها إلى العمل، ولم يشف غليلهم أن طالبان تحدثت عن حقوق المرأة التي قررها الإسلام وهي أكبر وأكثر من الحقوق التي قررها الغرب للمرأة المتعاونة وحدها، وحولها إلى سلعة رخيصة في الإعلانات والملاهي وأماكن الترفيه..
انتصار الإيمان
تمنيت أن أقرأ تحليلا موضوعيا عاقلا لأرامل المتعاونين مثل الذي قرأته للجنرال الصهيوني السابق “جيرشون هاكوهين”، وهو زميل أبحاث أول في مركز بيجن السادات للدراسات الإستراتيجية، خدم في جيش الدفاع “الصهيوني لمدة 42 عامًا، وقاد القوات في معارك على الجبهتين المصرية والسورية، وعمل قائد فيلق وقائدا لبعض الكليات العسكرية في جيش الدفاع..
لقد أرجع الجنرال الصهيوني انتصار “طالبان” إلى الإيمان، وقال في مقال له على الموقع الإلكتروني لمركز بيجن السادات للدراسات الإستراتيجية: إن الإيمان هو الذي انتصر في أفغانستان، وإن ما وقع في أفغانستان يمكن أن يتكرر في “الكيان الصهيوني، وإن السلطة الفلسطينية ستنهار بالسرعة نفسها التي انهارت بها السلطة الموالية لواشنطن في كابل، وأوضح أن الهزيمة الأمريكية في أفغانستان سيكون لها تأثير مباشر على الكيان الصهيوني، وأن الحكومة الزائفة التي فرضها الأمريكيون على كابل، لا يمكن الاعتماد عليها، مهما أتخمت بالاستثمارات الهائلة، وستنهار السلطة الفلسطينية وآلياتها الأمنية في الوقت المناسب أمام خصومها الإسلاميين، ولا سيما “حماس”، وإن الجيش الصهيوني مع تفوقه المادي والتكنولوجي الساحق، لا يملك أي فرصة لهزيمة أعداءه الإسلاميين ما لم يكن جنوده مدفوعين بإيمان لا يتزعزع بالقضية الوطنية.
ويعود الجنرال أربعين سنة إلى الوراء من الجهاد الإسلامي في أفغانستان، ويستعيد إرث عبدالله عزام. حيث كان عاملاً رئيساً في مساعدة المجاهدين على صد السوفييت. …
إن الغزاة الإرهابيين لايهتمون بالمتعاونين، بل يلقون بهم في سلة القمامة حين تنتهي مهمتهم، ولا ريب أن أرامل المتعاونين مع الحملة الفرنسية والحملة الأميركية لا يملكون رؤية سليمة، ولا فكرا حقيفيا، ولكنهم يدافعون عن أوضاع يخشون أن تزول مع انتصار الحق والحياة!