رغم مرور 40 عاماً على مجزرة “صبرا وشاتيلا” المروعة، فإن هذه السنوات لم تكن كفيلة أن تمحي تفاصيلها في ذاكرة الناجية منها رحاب كنعان (68 عاماً)، وكيف لها أن تنسى وقد فقدت ابنها “ماهر”، وابنتها التي كانت تظن لأكثر من 24 عاماً أنها قد استشهدت في تلك المجزرة مع شقيقها فوجدتها بعد تلك السنوات الطويلة ما زالت على قيد الحياة؟! وكيف لها أن تنسى وهي ترى المشاهد تتكرر بعد أن فقدت في مجزرة “تل الزعتر” ما يقارب 55 شخصاً من عائلتها؟! وكيف لها أن تنسى وهي ترى مجازر الاحتلال ما زالت ترتكب في قطاع غزة؟!
الدماء مثل النهر
حكاية الوجع التي ترويها رحاب لـ”المجتمع” ما زالت تعتصر ألماً في قلبها وهي تعيد في ذاكرتها مشاهد من الصعب نسيانها، حيث تقول وهي تحتضن صور عائلتها التي رحلت: هذه صور عائلتي رحلوا عني جميعاً، من الصعب نسيان ذلك اليوم وبالتحديد الساعة الثالثة فجراً، حيث كنت أسمع صراخاً، لكن لم أكن أعرف ما يحدث بالضبط؛ مما جعل الرجال يخرجون ليعرفوا ماذا يحدث؟ وتتبعتهم النساء كذلك، إلا أنهم لم يعودوا، فلم نعلم عنهم شيئاً إلا بعد أن انتهت المجزرة ووجدنا جثامينهم ملقاة في الشوارع.
وتابعت، في صفحات ذكرياتها الموجعة: كانت الأشلاء على الأرض والدماء مثل النهر، والأصعب من ذلك حينما كانت تمزق بطون الحوامل بدون أي رحمة، وكانت تحفر مقابر جماعية، فالجثامين في كل مكان بمخيم صبرا وشاتيلا، وكان عدد الشهداء ما يقارب 5 آلاف شهيد، و7 آلاف مفقود.
وتشير رحاب إلى أنه من الخوف كان الناس يخرجون ليحتموا بالمستشفيات، ظناً منهم أنها مكان لا يقترب منه، إلا أنه تم قتل الأطباء ومن كان في داخل المستشفى، فكانت مشاهد يصعب وصفها.
وبعد أن أخذت نفساً عميقاً وهي تعيد في ذاكرتها المحملة بالألم: لقد سبقت هذه المجزرة مجزرة “تل الزعتر” التي فقدت فيها كل أفراد عائلتي، حيث هدم الاحتلال الصهيوني الملجأ الذي كانت فيها العائلة.
وتضيف: كان موقفاً صعباً جداً، خاصة أنني كنت أعلم بأن أهلي في ملجأ آخر، وبعد الهدم أخبرتني امرأة أن كل أفراد عائلتي قد ماتوا بعد أن هُدم الملجأ عليهم، فأخذت أصرخ وأخبرها بأنهم ليسوا في الملجأ الذي هُدم، فأخبرتني بأنهم جاؤوا لهذا الملجأ قبل أن يدمر على من فيه قبل يومين من القصف.
فقدت كل عائلتها
كلما عادت بالذاكرة زادت نبضات قلبها وهي تتحدث: كانت صدمة كبيرة بأن أفقد كل أفراد عائلتي: أبي وأمي وأخواتي وإخواني وابني وأعمامي.. الكل، كنت أبكي بحرقة وأقول لأمي: لماذا رحلتم عني جميعاً وتركتموني وحدي؟ لماذا رحلتم؟!
هذا المشهد نبع بكلمات قصائدها وهي ترثيهم: ضاع وجه أبي وتاهت صرخة أمي وتناثرت ضفائر أختي وبقايا أنامل أخوتي، أمي يتوهج في الأعماق حنين لبقايا أغصان العصافير ذابت مع صرخاتنا الأخيرة لقبلة أبي بين الحلم والصحو المترنح للجلوس وإخوتي على مائدة الكتب لقهوة أختي على عتبة نامت الابتسامة وناحت عليها اليمامة، أثقلت السطور والأقلام وبقيت وحدي، صرخت بقلبي الكسير: يا رب أعط الصبر لعبدك الفقير.
ويشار هنا إلى أن مذبحة “صبرا وشاتيلا” نفذت في مدينة صبرا، ومخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين، في 16 سبتمبر 1982، واستمرت لمدة ثلاثة أيام على يد الاحتلال بقيادة أرئيل شارون، تهدف لتصفية سكان المخيم العزل دون رحمة.
تتحدث إلى الصورة
وكلما نظرت رحاب إلى صورة تحمل في إطارها أفراد عائلتها كانت تتحدث معهم وتخاطبهم، حيث تقول بنبرات جمعت ابتسامة تحمل الألم: كثيراً، أتحدث مع أمي وأبي وأخواتي وإخوتي، أنظر إليهم بالصورة، وأخبرهم ما يجول في قلبي، فأشعر أنهم يبادلونني الحديث، الصورة بالنسبة لي أكبر من مجرد صورة داخل إطار.
وما إن تقع عينها على صورة نجلها ماهر الذي رحل مع أفراد عائلتها في المجزرة حتى تحتضنها وتقبّلها وتأخذ كلمات تلقيها على مسامع الصورة قائلة: بمَ أرثيك يا ولدي، بعدما اغتالوا الكلام وحطموا الأقلام؟ وكيف أرثيك يا ولدي وأنت لم تزل على صدري وبين خفقات قلبي تنام؟ أناديك يا ولدي والحزن يصهل في عروقي يغتال فرحي، فأين أنت من بين البشر لتضمد جراحي لتمسح عن جفني العبر، سأنتظرك يا ولدي عند زيتونة باركها الله تعالى تفيّأ بظلها الرسل لننتظر بزوغ الفجر، وستبقى يا شهد روحي أغنية للفجر تعيش بين الضلوع حتى فناء العمر.
وتبين أنها كانت تظن أن ابنتها ميمنة قد استشهدت في المجزرة إلا أنها بعد 24 عاماً عثرت عليها والتقت بها.
وأوضحت أنه مهما مرت السنوات فمن الصعب نسيان هذه المذبحة، فما زال لها أثر كبير في عقلها وفكرها وحياتها.
المجزرة تتجدد في غزة
وكانت مشاهد الحروب والدماء في قطاع غزة تجعل ذاكرتها تعيد الأحداث من جديد، فكلما رأت دماراً في غزة تردد: أنا لست في غزة، هذه صبرا وشاتيلا، هذه العمارة المدمرة هي ذاتها التي دمرت على أفراد عائلتي وقتلتهم جميعاً، ففي صبرا وشاتيلا كانت الجثث والأشلاء والهدم والدماء والدمار والحال ذاته يتكرر في مجازر غزة بنفس التفاصيل بالمحاصرة والقتل والتشريد والذبح وهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها.
وفي كلمات ترجلت كفارس في نصر غزة التي جمعت مشاهدة مجزرة صبرا وشاتيلا تقول في قصيدتها: وترحل العيون من رفح وبيت حانون إلى صور ومرج عيون وعلى الجبين آيات فجر، هنيئاً لك ولنا يا غزة لاغتسالك من دنس الغزاة بردائك المطهر، بعزة يعتلي قوس القمر، نعم سيدة العشاق والشهادة، من رماد الجرح، من دخان القهر من دمع الطهر، غزة لنا راية النصر، سطر يا تاريخ عن المارد الفلسطيني عن زغاريد الثكالى، نزعوا ثوب الحزن بثوب النصر ورؤية التحرير.
وما زالت رحاب كل عام في ذكرى المجزرة تضيء شموع الوفاء للشهداء في الجندي المجهول بمدينة غزة المحاصرة، وهي تسأل: لماذا إلى اليوم لم يتم محاسبة الاحتلال على جرائمه؟!