أكدت دراسة علمية حاجة الأمة الإسلامية الملحة إلى منهجية التجديد الواعي والمستدام، من خلال إحياء الاجتهاد المعاصر، مشيرة إلى ضرورة التركيز على الاجتهاد الجماعي في المستجدات والقضايا العامة، وعلى نحو يواكب حجم التحديات والمستجدات، وتطويرِه، وفق رؤية علمية عصرية، ومنهجية أصولية، تراعي الثوابت، وظروف العصر، وتغير الزمان والأعراف، والسعي الحثيث لاستدامته؛ حتى يستديم النور المنبعث منه؛ لحل معضلات العصر وعلاج مشكلاتنا الآنية والمستقبلية.
الدراسة التي حملت عنوان “نحو اجتهاد عصري لتجديد مستدام” أعدها وألقاها د. أحمد علي سليمان، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الحاصل على المركز الأول في خدمة الفقه والدعوة الإسلامية “من جائزة وقف الفنجري”، أمام مؤتمر وزارة الأوقاف “الاجتهاد ضرورة العصر” الذي شهدته مدينة القاهرة.
وتابعت الدراسة تقول: إننا في مسيس الحاجة إلى الاستدامة في تكوين مجتهدين نابغين ونابهين وبارعين، يعكسون التوجهَ الاجتهادي، والوعيَ العميق بطبيعة الزمان والمكان والإنسان والأوطان، ويفقهون مقاصد الشرع الشريف على نحو دقيق، ويعون متغيرات الواقع، وما يحاك للوطن وللأمة من أعدائها.
ويستشرفون المستقبل بآليات ومنهجيات علمية منضبطة، ويمتلكون ملكات للاجتهاد المعاصر ومهاراته، والوعي الكامل بضرورة استدامته وَرُقِيّه، وتربية الأجيال المتخصصة عليه، ويمتلكون مقومات الفعالية والتأثير والمرجعية، بحيث تمثل اجتهاداتهم -القائمة على معايير أصولية سليمة ودقيقة وواضحة- قناعات السواد الأعظم من الناس.
تنزيل الأحكام الشرعية على المستجدات
وأوضح الباحث أن الأمة الإسلامية في حاجة لتكوين جيل من المجتهدين المبدعين البارعين في حسن فهم النص، وحسن قراءة الواقع، وحسن تطبيق أحكام الشريعة، بامتلاكهم القدرات الفائقة على الاحتكام الدقيق إلى القواعد الفقهية المساعِدة في تنزيل الأحكام الشرعية على المستجدات بشكل دوري مستدام.
وأيضا تفعيل الرخص وتيسير الشعائر والمعاملات على الناس، في ظل ما يزخر به ديننا الحنيف من المرونة، والسَّعة، واليسر، ورفع المشقة والحرج على المكلفين، حالما يستدعي الأمر ذلك في الأزمات والمشكلات والجوائح.. إلخ، كفيل بحل معضلات العصر، واستمرار التجديد المستدام.
واقترح د. سليمان عددًا من التوصيات المهمة، أبرزها: ضرورة إنشاء معهد عالمي لتكوين المجتهدين وتدريبهم، بالتعاون بين الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرية، ووزارات الأوقاف والشؤون الدينية، والمجامع الفقهية المنتشرة في العالم الإسلامي.
مع توفير الدعم اللازم لإنشائه على أحدث نظم ومعايير الجودة العالمية، وتكوين لجنة عليا للتخطيط لهذا المعهد، وتنفيذه، وفتح فروع إقليمية له في المستقبل، وبالتالي نضمن استدامة الوفاء بالمجتهدين البارعين؛ لتلبية حاجات العصر بفتاوى واجتهادات منضبطة.
وهو ما يضمن سريان نهر الشريعة بشكل رشيد، وتجديد الخطاب الديني، وتجديد فهم الدين الحنيف على نحو سليم وسديد، وبذلك نكون قد وضعنا أنفسنا والأجيال القادمة على طريق الاجتهاد العصري والتجديد المستدام.
مناهج تعليمية لتنمية العقل الاجتهادي
كما أوصى سليمان باستثمار منابع الثراء وروافده في المنهج الإسلامي، وتربية العقل المسلم من خلال مناهج للتعليم الحديث تركز على التفكير الناقد والتفكير الخلاق، والتفكير الاجتهادي، وكذا الإبداع في تدريب أجيال المجتهدين من خلال منهجية عصرية تركز على بناء العقل الاجتهادي، ورعايته، وتنميته.
ومن ثَمَّ إيجاد المجتهدين الذين يمتلكون القدرات الخلاقة والفائقة على التفاعل مع هذا الزخم المتسارع من المستجدات.
كما اقترح إعداد معايير ووثائق ومؤشرات وأدلة للاجتهاد والتجديد لشباب الفقهاء، وتدريبهم عليها، وتجديدها وتحديثها في ضوء المستجدات، وإنشاء قواعد بيانات محدثة بالمجتهدين حول العالم؛ لسرعة التواصل معهم وتنسيق العمل المشترك.
من أجل نقل خبرات كبار الفقهاء إلى الشباب، والحرص على تداولها بين أهل الاجتهاد على مستوى العالم؛ لضمان الاجتهاد المنضبط والمستدام.
كما دعا لتطوير منظومة التعليم الإسلامي والتدريب والتمرين والتقويم بما يسهم في إنتاج عقول متفتحة، تستثمر القوة الذاتية في المنهج الرباني؛ لضبط بوصلة الحياة المتطورة والمتغيرة على نحو سليم.
ومن الضروري –تقول الدراسة- الحفاظ على الثوابت والمقدسات واحترام العادات والتقاليد المعتبرة شرعًا وعرفًا، وتقديم المنظومة التشريعية والأخلاقية والقيمية الراسخة التي تستمد قوتها من ربانية مصدرها، بشكل يؤثر في حياة الناس، ويشحذ طاقاتهم لعبادة الرحمن، وعمارة الأكوان، ورعاية الإنسان، ويحفزهم نحو الأداء الحضاري المتميز، ومن ثم إسعاد البشرية، وتحقيق الرفاهية للجميع.
واختتمت الدراسة بالتأكيد على أهمية السعي الحثيث لتجديد فهم الدين لدى عموم الناس، برؤى جديدة تؤكد المعاني العظيمة التي بعث اللهُ تعالى الرسلَ من أجلها، واستثمار الآليات التقنية الحديثة في عرض هذا المضامين والمعاني والخبرات بشكل يتواكب مع طبيعة العصر.