تلقيت نبأ وفاة الإمام العلامة د. يوسف القرضاوي بمزيد من الحزن والألم، ليس لأنني من تلامذته ومحبيه فحسب، بل لأنني كنت محل قرب منه، وما طلبت يوماً لقاءه إلا وفتح لي أبوابه، بل آخر تواصلي مع فضيلته كان من خلال اتصال هاتفي منه بشخصي الضعيف، سألني عن أحوالي كعادته، ودعا لي وللأمة الإسلامية بخير، وطلب مني إرسال نسخة من كتبي لفضيلته، وبشرني بإصدار الموسوعة الإسلامية التي تتكون من مائة مجلد وتتضمن أعماله الكاملة، والأهم من كل ذلك هو أن فقْد هذا العالم الرباني هو فقْد أمة.
فالعلامة د. يوسف القرضاوي كان رائداً لعلماء عصره، ومجدداً لدين أمته، بما اتسم به من علم وفير، وفقه عميق، وتحليل دقيق، وأسلوب سهل بليغ، وحس مقاصدي مستنير، وفراسة إيمانية لا تغيب، وقوة في الحق لا تستكين، فهو الإمام في فقه المقاصد، وفقه الائتلاف، وفقه المآلات، وفقه الأولويات، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الاقتصاد، وفقه مكارم الأخلاق، وفقه الحلال والحرام، وفقه الجهاد، وبعبارة شاملة جامعة “فقه الشريعة والحياة”.
لقد عرف ميدان العمل الإسلامي العلامة القرضاوي كمفكر أصيل وهب حياته لدعوة ربه، وشهر قلمه ولسانه دفاعاً عن قضايا أمته، بنظرة علمية، ورؤية تجديدية، ونزعة وسطية، وقوة إقناعية، فلم يكرر نفسه، ولم يقلد غيره، ولم يتطرق لموضوع إلا وأضاف فيه جديداً من تصحيح فهم، أو تأصيل فكر، أو توضيح غامض، أو تفصيل مجمل، أو رد شبهة، أو بيان حكمة أو نحو ذلك.
وقد استحوذ الاقتصاد الإسلامي على حيز كبير من حياة العلامة القرضاوي، فقد عرف الفقه التنظيري والتطبيقي في الاقتصاد الإسلامي طريقه مبكراً لديه، واتسم هذا الفكر كغيره من فقه العلامة القرضاوي بالوسطية، والتوازن، والواقعية، والتيسير ورفع الحرج، ومراعاة الفطرة ومصالح الناس.
كما كان لمؤلفات فضيلته التنظيرية ومواقفه العملية دور بارز في نشر فكرة الاقتصاد الإسلامي نظرياً وتطبيقياً، مما هيأ الأجواء لقبولها في أرض الواقع.
وكان من فضل الله عليَّ أني كتبت كتاباً عن دور فضيلته في الاقتصاد الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أو التطبيقي، تطرقت فيه لنشأة وتطور الاقتصاد الإسلامي، مع إبراز مرحلية العلامة القرضاوي في ذلك، وكذلك المنهج التنظيري له في الاقتصاد الإسلامي، والدور التنظيري وكذلك التطبيقي له في الاقتصاد الإسلامي، وقد نالني منه الفضل بقوله عن هذا الكتاب ببلاغته المعروفة وتواضعه المعهود، يرحمه الله: “الأخ د. أشرف دوابه، أستاذ الاقتصاد الإسلامي، كتب عن دور القرضاوي في الاقتصاد الإسلامي، والله قدم الموضوع أحسن مما لو حاولت أنا أن أقدمه”.
إنني وأنا أكتب هذه السطور ينتابني شعور يعجز فيه اللسان عن الكلام والقلم عن الكتابة من حجم تلك المصيبة التي ألمت بالأمة في وقت هي في أمسّ الحاجة إليه، فالله تعالى لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فكيف الحال بموت هذا العالم الرباني الموسوعي الذي جمع بين القول والعمل، بين قوة البيان وحركة الإسلام في واقع الحياة، وحسبنا أنه عاش مجاهداً في رفع كلمة الإسلام في ربوع الدنيا، وترك ميراثاً من العلم النافع والعمل الصالح سيظل صدقة جارية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بإذنه تعالى.
إنني أعزي في وفاة عالمنا الرباني الإمام العلامة د. يوسف القرضاوي نفسي وأسرته والأمة الإسلامية جمعاء، وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك لمحزنون يا شيخنا، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
رحمك الله يا شيخنا وجزاك خيراً بما قدمت لأمتك من علم نافع وعمل صالح، وعوضك عن صبرك على البلاء جنات وأنهاراً في مقعد صدق عند مليك مقتدر.