جاء “الربيع العربي” محمولاً على أشواق الشعوب العربية في الوصول إلى الحرية وحكم نفسها بنفسها متطلعة لحياة أفضل قوامها وشعارها “عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية”.
لكن “الربيع العربي” بعد 10 سنوات من انطلاقته ونجاحه في الوصول إلى الدولة الديمقراطية في بعض الدول العربية كتونس والمغرب عجز كل العجز في تحويل هذه الإرادة الشعبية وتسييل الديمقراطية السياسية إلى ديمقراطية تنموية وتحقيق مكاسب تنموية تنهض بحياة الناس وحاجاتها الأساسية والثانوية، فأعاد السؤال الكبير: هل الديمقراطية قادرة على بناء النهوض في حياة الناس ومعاشهم وحل مشكلاتهم وتأمين حاجياتهم، أم أنها لا علاقة لها بنهوض الأمم وتقدمها؟
بلا شك أن كل الدول الناهضة دول ديمقراطية، وأيضاً حالة النهوض التي تنعم بها بعض الأنظمة الشمولية مثل الصين حالياً ما هي إلا حالة مؤقتة مصيرها إلى زوال، كما كان مصير ألمانيا هتلر، وإيطاليا موسوليني، والاتحاد السوفييتي قبل الانهيار، فهذه هي طبائع الأشياء في حركات بناء الدول ونموها واستمرار نهوضها وتقدمها.
الغريب أن “الربيع العربي” عجز، رغم جرعة الحرية الكبيرة ونظافة الصندوق في تونس والمغرب، عن تشكيل أي حالة نهوض في تلك الدول تنعكس على حياة الإنسان التونسي والمغربي، وقد يعود هذا العجز في تسييل الديمقراطية السياسية إلى ديمقراطية تنموية وتحقيق أي مكتسبات تنموية إلى عدة عوامل، أهمها:
– إغراق النخب الثائرة التي ورثت الحكم بعد الحالة الاستبدادية في تثبيت التوافق الديمقراطي، وإهمال الهدف والعلّة التي جاءت وشرعت الديمقراطية من أجلها؛ وهي استخراج أفضل ما لدى الشعوب من بينها من يدير المال العام وينهض بها، فكان الاهتمام بالديمقراطية السياسية والمبالغة في ذلك رغم أهميتها على حساب الديمقراطية التنموية، فتم إهمال ضرورات الإنسان العربي، فزهدت الشعوب في الديمقراطية.
– وجود القوانين الانتخابية القاصرة التي أنتجت برلمانات معلقة بالمعنى السياسي، إذ لم يستطع أي حزب أن يمتلك أغلبية برلمانية تمكنه من تشكيل حكومة بشكل منفرد؛ ما دفع الأحزاب إلى الحكومات الائتلافية بين أحزاب مختلفة في الأيديولوجيا السياسية، فكانت هذه الحكومات أقرب للمحاصصات السياسية الباحثة عن النفوذ والمكاسب الحزبية منها إلى الإنجاز وتنفيذ البرامج.
– قدرة الأنظمة التي كانت تسيطر على السلطة على تجريف الحالة القيادية للأحزاب الثائرة المناوئة لها، إذ استطاعت هذه الأنظمة قبل سقوطها أو تراجعها أن تجعل من الأحزاب التي كانت تناوئها أحزاباً فقيرة الخبرات في إدارة الدولة لحرمانها من المشاركة في إدارة الدولة على مدار عقود من الزمن، فكانت كوادر أحزاب المعارضة التي وصلت للسلطة عاجزة كل العجز عن إدارة دفة البلاد كرجال دولة عندما جاءت لهم فرصة الحكم، وبدأت النخب الثائرة التي تسلمت السلطة وكأنها تريد صناعة العجلة من جديد، فكانت الأخطاء الكبيرة التي انعكست على معاش الناس وحياتهم وعدم حل إشكالياتهم ومتطلباتهم.
– قدرة الأنظمة السابقة على بناء دولة عميقة مركبة ومعقدة متشابكة ومترابطة ومتعاونة في بناء شبكات من المصالح المتبادلة، جعل هذه الشبكات والبناء الهرمي للدولة العميقة عصياً على التفكيك، فتم تكسير عصا الثورة ونخبها ورجالها على صخرة الدولة العميقة الصماء المتماسكة.
– غياب الخطاب البرامجي التفصيلي في مفردات طرح الأحزاب المتنافسة، وإحلال الخطاب الأيديولوجي في التنافس والتدافع والدوران حول الأيديولوجيا التي لم تزد الجميع إلا تمحوراً وانقساماً وصراعاً وتيهاً صفرياً لم يقدم لأي طرف أي شيء في مسيرة البناء والنهوض.
– نشر المعارضة الثائرة الخطاب الطوبائي المثالي بين الناس قبل قيام الثورات، فترسخ لدى الناس أن الديمقراطية ما هي إلا عصا سحرية قادرة على انتشال الناس -من واقعها الذي حصل في عهد الأنظمة اللاديمقراطية- إلى الرخاء والرفاه الذي صوره لهم الخطاب الطوبائي، لكن الواقع كان أصدق من هذا الخطاب، فصُدم الناس من بطء المسيرة، فانحازوا إلى الخطاب الشعبوي مرة أخرى، الذي قدمه خصوم الديمقراطية عندما شعرت أن الخطاب الطوبائي قد باعهم الوهم، فرأينا الناس في تونس وبعض دول “الربيع العربي” كما في مصر قبل الانقلاب، تهتف ضد الديمقراطية ومن جاء بالصندوق وتنحاز لخطاب شعبوي يوهمهم أن الحل في تركيز السلطة بيد من حديد، وجمعها بيده، فتم للاستبداد مرة أخرى الإمساك بالسلطة وبإرادة الشعب ورغبته.
عجزت النخب العربية أن تحول “الربيع العربي” وطفرة الحرية والثورة إلى مكتسبات وتحقيق الديمقراطية التنموية، فزهد بها الناس وكشفوا عنها الغطاء وانفضوا من حول “الربيع العربي”، فالتهم وحش الفساد والاستبداد المتربص الثورات ونخبها التي أضاعت فرصة الخلاص التي جاءت بعد صراع طويل مع الاستبداد.