في سياق حديثنا عن عالم البرزخ وحياة الناس فيه، سأتناول في هذه المقالة “فرعون وعذاب البرزخ”، مستمداً مادتها من قصة موسى كليم الله (عليه السلام) وعلاقته بفرعون، والتي أوردها القرآن الكريم في عدة سور، وتعتبر أطول قصة في القرآن الكريم، ومن القصص القرآني التي احتوت الكثير من الدروس والعِبر والمعاني الفكرية والسياسية والعقدية والأبعاد الروحية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه العزيز.
وجاء فيها تناول طبيعة النظام الفرعوني وظُلمه وإِجرامه وعُلوه، واِستكباره، وقتله للأطفال، واستحيائه للنساء، وإذلاله لكرامة الإنسان وحياته.
ولقد بيَّن الله عزَّ وجلّ أسباب هلاك فرعون وقومه من:
- الكفر بالله عز وجل
- الشرك في الربوبية
- الظلم والاستكبار
- دفع الحق
- انتهاك الحرمات
- الاستعلاء على الناس واستحقارهم
- الاعتداء على البشر
- الفخر بالملك والسلطان والمال
- التكذيب بالرسل وأتباعهم
- كُفران النعم
- فساد الصفوة (الملأ)
- الترف
- الانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة
- وسنة الاستبدال
- وسنة الأجل الجماعي
- وسنة الهلاك
- وسنة الخسران
- سنة المفسدين
- سنة الله في الفاسقين
- والغفلة عن أسباب الهلاك.
وكما ظهر في قصة فرعون وقومه، رجل مؤمن من آل فرعون، والذي دافع عن موسى (عليه السلام)، وأقام الأدلة والقرائن العقلية والمنطقية على صدقية دعوته، وآثار دعوة قومه إلى توحيد الله وإقراره بالعبودية، والاستعداد للقاء العزيز الغفار، وقد ذُكرت قصته في سورة غافر، وخُتِمَتْ قصته بقول الله تعالى: [فَسَتَذْكُرونَ ما أقولُ لَكًمْ وَأُفوٍّضُ أَمْرِي إِلَى الله * إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادْ* فَوَقَهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ *النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أّدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب] (غافر: 46).
ودلّت هذه الآيات الكريمة على أنَّ فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم، وأنَّ الله وقاه، أيّ حفظه ونجَّاه من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكلِّه على الله وتفويضه أمره إليه[1].
وقال الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله): في قوله تعالى: [وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ]، والمراد عذاب الدنيا قبل الآخرة؛ لأنَّ الإنسانَ له في حياته ثلاثُ مراحل:
- الحياة الدنيا التي نعيشها الآن.
- حياةُ البرزخ بعد أن يموت إلى يُبْعَث يوم القيامة.
- آخرها حياة الإنسان بعد البعث[2].
وفي قوله تعالى: [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيَّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أّدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابْ] (غافر: 46)
أيّ: يُعرضون على النار غدوا وعشيا في أول النهار وآخره مادامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لخزنة جهنم: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وهذه الآية دليل على عذاب القبر كما قال العلماء.
قال الرازي: احْتُجَّ بهذه الآية على إثبات عذاب القبر، فالآية تقتضي عرض النار عليهم غدواً وعشيا، وليس المراد منه يوم القيامة؛ لأنه قال: [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]، وليس المراد منه الدنيا؛ لأنّ عرضَ النار عليهم غدواً وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا، فثبت أنّ هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة ويدل على عذاب القبر في حق هؤلاء[3].
وقد بوَّبَ الإمام البخاري في صحيحه باب ما جاء في عذاب القبر وقد ذكرَ هذه الآية، وأورد عدداً من الأحاديث، ومنها:
- عن عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: “نعم عذاب القبر”، فقالت عائشة (رضي الله عنها): فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلَّى صلاةً إلاَّ تَعوَّذَ مِنْ عَذَابِ القبْر، وزَاد في رواية: عذابُ القبْرِ حقٌّ[4].
- وعَنْ موسى بنِ عقبةَ قال: سمعت أَمَّ خالد بنت خالد قالت: سمعتُ النبي يتعوَّذُ مِن عذابِ القبر، وعن مصعب بن سعدٍ قال: كان سعدٌ يَأمُرُ بخمسٍ، ويذكرهُنَّ من النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كان يأمر بهنَّ: “اللَّهمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ من البُخلِ وأَعوذُ بك من الجُبنِ وأعوذُ بكَ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرْ وأعوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنيا وأعوذُ بكَ منْ عذَابِ القبر”[5].
- وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: اطَّلعَ النبيّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم على أهلِ القليب[6]، فقال: “وجدتُم ما وعد ربُّكُمْ حقَّا؟”، فقِيلَ له: تدعو أَمواتًا؟ فقال: ما أنتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ ولكنَّهُمْ لا يُجيبون”[7].
قال القسطلانيّ: هذا يدلُّ على وجود حياةٍ في القبر يَصْلُحُ معها التعذيب، لِأَنَّهُ لمَّا ثَبُتَ سماع أهل القليب كلامه عليه الصلاة والسلام وتوبيخه لهم، دلَّ على إدراكهم الكلام بحاسَّة السمع، وعلى جواز إدراكهم ألَمُ العذاب ببقيةِ الحواس، بل بالذَّات[8].
ث – وعن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنه قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً، فَذَكَرَ فِتْنَةَ القبر التي يُفتتنُ فيها المرءُ، فلمَّا ذكر ذلك ضَجَّ المسلمون ضَجَّةً[9]، قال النووي: فيهِ إثباتُ عذاب القبر وفتنته، وهو مذهب أهل الحق[10].
ج – عن أنس بن مالك رضي الله عنه :أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إنَّ العبد إذا وُضِعَ فِي قبره وتولَّى عنهُ أصحابهُ- وإنَّه ليَسْمَعُ قرْعَ نِعالهم – أتاه مَلَكَانِ فَيُقعِدانِه فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأمَّا المؤمن فيقولُ أشهدُ أنَّهُ عبد الله ورسوله ،فيُقالُ له: انظر إلى مقعدك من النَّار، قد أبْدَلك الله به مقعداً من الجنَّة، فيَراهُما جميعاً ، قال قتادة: وذُكر لنا أنَّه يُفسَحُ له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس قال: وأمَّا المنافق والكافر فيقال له: لا دَرَيْت ولا تَلَيْتَ ،ويُضْرَبُ بمطارِق من حديد ضربة ، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه غير الثقلين”[11].
قال ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب نالَه نصيب منه، قُبِرَ أمْ لم يُقبَر، ولو أكلتْهُ السباع وأُحرِقَ حتى صار رماداً ونُسِفَ في الهواء، أو صُلِبَ أو غرق في البحر، وصل إلَى روحهِ وَبدنِهِ مِنَ العذاب ما يصِلُ إلَى القبور[12].
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: فليُعلم أنَّ مذهبَ سلفِ الأمَّة وأّئِمتَّها أَنَّ المَيِّتَ إِذا مات يكونُ في نعيمٍ أو عذابٍ وأنَّ ذلك يحصلُ لِروحِهِ ولِبَدنِه، وأنَّ الروح تبقى بعد مُفارَقَةِ البدن مَنَعَّمةً ًأو مُعذَّبَة، وأنَّها تَتَّصِلُ بالبدن أَحْيَانًا فيحصل له معها النعيم والعذاب[13].
وذكر ابن أبي العز الحنفي أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ وجميع ما فيه من النعيم والعذاب، وهو واقع على جميع البشر وإن اختلفت كيفيات موتهم من القتل والحرق والتمزُّق، وتناثر الأعضاء، سواء دُفِنوا، أولم يُدفَنُوا، فهُم يعيشون تلك الحياةَ إمَّا مُنَعَّمِينَ أو مُعذَّبِينَ[14].
فيقول: واعلم ان عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبهُ منه قُبِرَ أمْ لم يُقبَرْ، أكلتْهُ السِّبَاعُ واحترق حتى صار رماداً ونُسِفَ في الهواء، أو صُلِبَ أوْ أُغرِقَ في البحر، وصل إلى روحهِ وبَدَنِهِ مِنَ العذابِ ما يصل إلى المقبور[15].
وبَيَّن أيضاً أنَّ الأَروَاحَ والأَبدانَ يُصيبُهَا العذابُ والنَّعيمُ في الدُّورِ الثلاث كما قال: فالحاصلُ أنَّ الدُّورَ ثلاثٌ: دار الدُّنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دارٍ أحكاماً تخصُّها، وركَّبَ هذا الانسان من بدن ونفس، وجعل أحكامَ الدُّنيا على الأبدانِ والأرواحِ تبع لها، وجعل أحكامَ البرزخ على الأرواح والابدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً[16].
وهكذا، سيُلاقي الفراعنة والمستكبرين العذاب الأليم في الحياة البرزخية وفي دار القرار، وسيُعذبون بعد موتهم، ويُعرضون على النار غُدوا وعشيا، ويُلاقوا عذاب الهُون لتجبرهم واستكبارهم عن آيات الله، وظُلمهم للناس، واتباعهم الهوى، وكُفرهم بأنعم الله عليهم، وشِركهم في الربوبية، ودفعهم للحق، وانتهاكهم للحرمات، واستعلائهم على الناس، وتكذيبهم الرسل وأتباعهم، والانشغال بالدنيا ونسيان الآخرة، وهو ما دللت عليه الآيات القرآنية والسنة النبوية في كل محطة في الحديث عن الظالمين والفراعنة المستكبرين في الأرض.
وأخيراً أختم بالقول: إن كل من سارَ على نهج فرعون في التمادي بالكفر والظلم والإجرام والفسق والاستكبار، وقيادة الشعوب نحو الهاوية، واتباع طريق إبليس والأهواء الشيطانية، سيحدث لهم ما حدث لفرعون من قبلهم سواء خاتمة وعذاب أليم في عالم البرزخ وفي دار القرار.
المراجع:
- إرشاد المساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن أبي بكر شهاب الدين القسطلاني، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، 1996م، 3/ 529.
- التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، محمد عبد الرحمن المغراوي، 29/ 365.
- تفسير الشعراوي، 21/ 13291.
- تنوع خطاب القرآن الكريم في العهد المدني: دراسة لغوية، صالح عبد الله منصور العولقي، اليمن، عدن، دراسات قرآنية في جامعة عدن، رسالة ماجستير، 2011م، ص 392.
- الروح، شمس الدين ابن القيم الجوزية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1982م، ص 58.
- شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1990م، ص 391 – 392.
- شرح مسلم، 6/ 182 – 183.
- صحيح البخاري، رقم 1372، ورقم 6365.
- مجموع الفتاوى، 4/ 284.
- مسند أحمد، 3/ 126، وانظر: صحيح البخاري، 3/ 298، رقم 1374.
- مفاتيح الغيب، 27/ 64، بتصرف.
- موسى كليم الله؛ عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، 2022م، ص. ص 718 – 720.
[1] التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، محمد عبد الرحمن المغراوي، 29/ 365.
[2] تفسير الشعراوي، 21/ 13291.
[3] مفاتيح الغيب، 27/ 64، بتصرف.
[4] البخاري، رقم 1372.
[5] البخاري، رقم 6365.
[6] القليب/ البئر التي لم تطوَ، يذكر ويؤنث.
[7] مسلم، 2/ 643.
[8] إرشاد المساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن أبي بكر شهاب الدين القسطلاني، تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، 1996م، 3/ 529.
[9] البخاري، رقم 6365.
[10] شرح مسلم، 6/ 182 – 183.
[11] مسند أحمد، 3/ 126، وانظر: صحيح البخاري، 3/ 298، رقم 1374.
[12] الروح، شمس الدين ابن القيم الجوزية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1982م، ص 58.
[13] مجموع الفتاوى، 4/ 284.
[14] تنوع خطاب القرآن الكريم في العهد المدني: دراسة لغوية، صالح عبد الله منصور العولقي، اليمن، عدن، دراسات قرآنية في جامعة عدن، رسالة ماجستير، 2011م، ص 392.
[15] شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز، تحقيق: عبد الله عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1990م، ص 391.
[16] شرح العقيدة الطحاوية، ص 392.