لم يدر في خلدي يومًا، أنني سأكتب فيك رثاءً.. فكيف يستطيع المرء أن يرثي نفسه؟!
كيف أبدأ، ومن أين، لست أدري يا أبتاه!
فمازالت دقات الساعة عصر ذلك اليوم الحزين (الثلاثاء الحزين 17/ربيع الثاني/1443هـ الموافق 23/11/2021م)، تعصر قلبي وجعًا وألمًا.
يا عصر الثلاثاء الحزين.. أيّ نعيٍ حملتَ لقلوبنا وأرواحنا في طياتك؟!
أبي، وتمر الذكرى الأولى على رحيلك…! عام مضى، وكأنه الدهر، رحلتَ بصمت وهدوء، كطبعك في حياتك الطيبة الطاهرة العطرة.. رحلتَ بعد واحد وثمانين عامًا، ملأتها دعوة إلى الله، وفكرًا نيّرًا، وعلمًا وعملًا، حاملًا همَّ الأمة وقضاياها، غدوك ورواحك في طاعة الله.
أبي.. يا جامعة العلم والفكر والدعوة، أخط حروفي هذه، وأنا أعلم أنها أقل القليل في حقك، أخطها وفي القلب وحشة الغربة والفراق، لكنني أحاول فيها الوفاء ولو بنزر قليل، وهو لك عليّ حق.
إليك يا والدي، يا من حملت بين جوانحك دفء الأبوة ونسماتها الرقيقة، يا نفحة ربانية وعطية إلهية، يا نهرًا متدفقًا من الحب والود والتسامح والإيثار والجود والتواضع. أنت يا أبتاه، فارس هذه المعاني والكلمات.
أبي.. عن أي شيء سأكلمهم يا أبتاه؟
- أعن (المهاجر) هجرتين؛ من فلسطين (1948م) إلى سورية؛ قسرًا من حقد يهود، ومن سورية (1978م) إلى الأردن؛ هربًا من ظلم العبيد؟
- أم عن (المعلم القدوة والمربي الفاضل)؟ الذي امتهن التعليم بداية حياته، مدة عشرين سنة، أمضى غرة شبابه مربيًا للأجيال، حتى ما فتئ قلمه يتصدر هنا وهناك، توجيهًا ودعوةً وإرشادًا ونصحًا، فقيّدتَ آراءك وتجاربك في تربية الأنفس وتزكيتها، وتربية الأبناء والأحفاد، والعناية بالأسرة التي هي نواة المجتمع، وبالمرأة فيها خاصة، فخرجت لنا بمؤلفك (كلمات في التربية)، في واحد وأربعين مقالًا، أهديتَها كما تقول: (إلى كل إنسان أراد لهذه الدنيا أن تكون مكانًا آمنًا…). ووضعت لنا مؤلفك (الهجمة على المسلمين: المرأة في عين العاصفة)، أهديته (إلى الأم، إلى الأخت، إلا الابنة، إلى الزوجة، إلى كل امرأة، أقول (امرأة) وحسب، مسلمة كانت أو غير مسلمة… كي تكون حافز نظر ومراجعة من نساء اليوم… فأنتِ الثبات، وأنتِ المبشرة، وأنتِ الشقيقة، وأنتِ الشريكة، وأنتِ السكن، وأنتِ الحبيبة القريبة الشجاعة، المعينة على نوائب الدهر ومهمات الحياة).
أم عن (الداعية والمفكر الفذّ)؟ وقد أمضيت حياتك كلها في الدعوة إلى الله، والمنافحة عن الإسلام قولًا وفعلًا، والدعوة إلى نهضة الأمة وقيامتها، فتركت لنا إرثًا، هو قارب نجاة في لجج مظلمة، ومصباح إنارة وسط ظلام التيه، وشمعة إضاءة تتلألأ كاشفة لنا الطريق، بصبرك وعزمك وإرادتك، فأفرزت لنا الكثير من الكتب، منها على سبيل الذكر لا الحصر: (مسؤولية القلم)، مهديًا إياه إلى (كل قلم حر.. إلى كل لسان حر.. إلى كل قلم التزم بالحق قولًا وعملًا.. إلى كل لسان التصقت حركته بالحقيقة.. إلى كل صاحب رأي نزيه.. إلى كل من يضحي بالزائل من هذه الدنيا، مدافعًا عن الحق والعدل والإصلاح). وكتاب (كلمات في الصميم)، وقد أهديتَه (إلى كل مؤمن داعية متزن يحمل قيم دينه الوسطية؛ فلا طغيان في الوسيلة والآلية، ولا طغيان في الحوار والنقاش، ولا طغيان في البرنامج العملي، ولا استكبار أمام الحق يضيء الطريق، ولا طغيان في فرض الرأي. لأن هذا الداعية، شراع نجاة في الليل الطامي، يخرج الأمة من حيرتها وتيهها، يحمل في أعطافه ندى دين الأمة العذري، ليغتسل الناس بقطراته العطرية من أدران العصر، فهو يحمل طهر الكلمات: } وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ الأنبياء/107).
أم عن (السياسي الإعلامي)؟ حيث كانت -على الدوام- عينُك على المستقبل، فكان الإعلام من اهتماماتك الكبيرة، لما له من أثر في نهضة الأمة ووعيها، وأثر في دحض الباطل أمام الحق. فـكان كتابك (لماذا الإعلام؟)، حيث (الفضائيات العربية تشارك في عملية التوهين للأجيال، وتضليلها بالصور الملتبسة الموهمة والكلمة غير الصادقة؛ ففي كل لحظة يُسمعونك كلمة “العنف”، ولكنك تستطيع أن تشعر باللكنة المريبة التي تدنس حواشي الكلمة وهي تخرج من أفواه مذيعي الفضائيات، خصوصًا عندما يتعمدون إضافة “الإسلامي” إلى الكلمة، التي أصبحت حصة أساسية من لعبة “الكبار”، لتوجيه الأحداث وتغيير وجهها البريء). فالإعلام سعيٌ عظيمٌ صعبٌ وُلُوجُه، وبخاصةٍ الإعلامُ الإسلامي؛ إذ تقع على الإعلامي الإسلامي مسؤولية مضاعفة، فعليه (أن يرى طريقه خلال نور الله وهدايته، فيبدأ من عند النقطة التي أشرنا إليها، “وهي وصل الإنسان بالله”، فيسعى به نحو العودة بخطاب مرن وممارسة تراعي الظرف والوقت والمناسبة. ولقد علمتني التجربة أن المهمة الأساسية للإعلامي الإسلامي في قطره أو على المستوى الإقليمي أو العالمي، ليست في دخوله إلى معمعة سوق المماحكات والمغالبات؛ لأن في هذه السوق احتشدت إمكانيات هائلة لا تتيح لهذا الإعلامي أن يعلي صوته، بيد أن الإعلامي الإسلامي يمتلك رصيدًا هائلًا من الحق والفطرة والصدق، يجعله قريبًا من آذان الناس وقلوبهم، واعيًا قيمة ما بين يديه، مهيئًا قدراته للوصول إلى مواقع التأثير، مع التوكل على الله، علاوة على حسن استخدام الإمكانات المتواضعة، ومعرفة عميقة بكيفية إدارة عناصر خطابه، والمحاولة الحثيثة الأكيدة بلا كلل ولا تردد ولا يأس، لبث روح الأمل في نفس إنسان اليوم، المنتظر أفقَ بيانٍ مخلصٍ، ينظفه من كل الأدران التي علقت به، وتشبثت بفؤاده وجوارحه، وذلك عندما انقاد الإعلام للضجة والزحمة؛ ساعيًا دائمًا إلى الربح، والربح فقط، وتأكيد ما هو فاسد مفسد في الغالب الأعم. وليكن حادي هذا الإعلامي في وعيه وفهمه، قول الله تعالى: } واتّقوا الله ويعلمكم الله { البقرة/ 282).
وكتابه (شبهات وردود)، حيث يقول في تعريفه على الغلاف الخلفي: (سلني: لم كتبتُ الردود؟ قلت: إن السكوت عن الحرف الملوث خرس شيطاني أعمى… ولهذا كتبت بلغة التناصح نثرًا، يبين عورات قوم أهمتهم قامات صنعت لهم، فلا هم دروا كيف اعتلوا منابر قاماتهم، ولا هم دروا أن ما يهرفون به ضياع أمة صنعت للتاريخ أمجادًا بحق، هو التراث الذي حاول المارقون على المدى نبذ نصاعته بأنصال جحود…
العالم العربي ضيّع شعره وشعوره، والكاتب العربي بين حروفه مفقود، وارجع إذا شئت إلى كلمات ردود، كتبتها من حروف مقهورة، خائفة على أمة كانت للدُنَى في كل العصور دليلًا).
- أم عن (الأديب الناقد)، بأسلوب محلق، ولغة بليغة لكأنها السحر، ولفظ جزل، ينم عن عميق فكر، وسعة ثقافة؟
نعم، الأديب الناقد (رواية، وقصة، ونقدًا)، فأما الرواية، فقدم الوالد –رحمه الله- سيرته الذاتية على هيئة رواية، في أربعة أجزاء، حمل كل جزء منها عنوانًا، كل عنوان هو مرحلة من مراحل حياته، إلا أن الجزء الرابع، لم يكتمل، بقي فيه القليل، إذْ قدر الله ومشيئته أسبق، فوافته المنية، وما فتئ -رحمات ربي تتنزل عليه- في مرضه الأخير، يحمل همَّ إتمام هذا الجزء من الرواية، وكان يصبرنا وهو الصابر المحتسب، ونصبره بهذا الأمل، والحمد لله في السراء والضراء.
وأما القصة، فأصدر ست مجموعات قصصية، منذ بدايات كتاباته في السبعينيات من القرن الماضي، فكانت مجموعته الأولى: شاطئ الرؤى الخضر عام (1978).
وقد صدر له في النقد مؤلفه (كيف تصبح كاتبًا)، فقال في مقدمته: (وكانت مني هذه المشاركة المتواضعة في هذا السياق، مبينًا فيها سبل المضي في اتباع هدي الأولين، ثم في مراعاة عصرنا الذي نعيشه، ونزاول فيه الكتابة التزامًا بالهدى، وإنقاذًا للكتابة من وهن الطين، وما يروجه المروجون من وسائل وأساليب، تبعد عن قصد أو غير قصد اللسان العربي العالي عن ساحة الكاتبين. وقد قسمت البحث في هذا الموضوع إلى بابين؛ الأول يحتوي عشرة أبحاث في التنظير للبيان المعاصر الملتزم، والثاني ضمنته دراسات تطبيقية معتمدة على التنظير).
وللوالد الكريم –رحمه الله-، مئات المقالات، منوعة بين السياسية والأدبية والفكرية والتربوية، منشورة في صحف ومجلات متعددة، هي: المجتمع الكويتية، النور الكويتية، الصحوة اليمنية، المشكاة المغربية، القدس العربي، الأدب الإسلامي، الأمان اللبنانية، المسلمون السعودية (أغلقت)، اللواء الأردنية، العرب اليوم الأردنية، الأمة الأردنية. هذا إلى جانب المقالات المنشورة في المواقع الإلكترونية، هي: موقع رابطة أدباء الشام، موقع رسالة الإخوان.
- مؤلفاته:
– مجموعات قصصية، هي: شاطئ الرؤى الخضر/ ثورة الندم/ المطر المر/ وتكلم الحجر/ خبز ودم/ خط اللقاء (بالاشتراك).
- سلسلة أضواء كاشفة: (صدر منها إلى الآن سبعة أجزاء)، هي على الترتيب: تحديات ومواقف/ كلمات في التربية/ مسؤولية القلم/ كلمات في الصميم/ لماذا الإعلام/ الحوار.. وعتمة الزمان والمكان/ شبهات وردود.
- الرواية: رباعية تمرد أحصنة الأمل، صدر منها ثلاثة أجزاء، والرابع قيد الطباعة والنشر بإذن الله، هي على الترتيب: صهيل العودة يغتال مرّ الرحيل/ تراتيل اللجوء/ إنه الآن.. المكان غير آمن/ أمل نابض.. وما وهنت الخطى.
- كتب في موضوعات مختلفة؛ تربوية وسياسية، وأدبية، وثقافية، وفكرية، وعقائدية، هي: الفِرق في الإسلام: في مئة سؤال وجواب (جذورها وحاضرها) / الصحوة الإسلامية: تحديات داخلية وخارجية/ كيف تصبح كاتباً؟/ الهجمة على المسلمين: المرأة في عين العاصفة/ العائلة الأسدية، وجرائمها في سوريا ولبنان وفلسطين/ السفاح الصفوي الجديد: إيران والجريمة المستمرة.
- وقد ترك الوالد –رحمه الله- كتبًا مازالت قيد الطباعة والنشر بإذن الله تعالى، نسأل الله الكريم أن يضاعف له أجرها في ميزان حسناته.
- من أقواله وفكره:
عن مستقبل الثقافة العربية والإسلامية، في ظل الانهيار الحالي، وتسارع عملية التطبيع مع العدو الصهيوني، قال في مقابلة مع مجلة الإصلاح (1994م): (قال تعالى: } فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال{ الرعد/17 وقال جل وعلا: } ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار {إبراهيم 24-26.
إن نظرتي إلى مستقبل الثقافة العربية والإسلامية، ينطلق من كلام الله الكريم المحكم في الآيتين السابقتين، فأقول: إن كثيرًا من الباطل سوف ينتفش ويطفو فوق سطح الغثاء الجديد، وسوف تحاول نزعات الاستسلام والخنوع أن تفرض منطقها ومنطلقاتها في كتب التلاميذ المدرسية، ومن ثم تسود بها بياضات الصحافة وفراغاتها. ولسوف تكون الإذاعات المسموعة والمرئية أبواقًا مرددة لهذا المنطق في محاولات حثيثة وضخمة؛ من أجل تسويد ثقافة الجيل الحالي والقادم بنتن التنازلات، ليركن الجميع إلى استيعاب شذاذ الآفاق ومغتصبي الأرض والكرامة والمقدسات داخل مجتمعاتنا ككيان سيد، وكأمر واقع مفروض وصديق. ولسوف تكون هناك محاولات حميمة لتلويث الآفاق بثقافة الاستهلاك والرفاهية الوهمية، وفكر الخنا والفجور والسير بالشباب والمجتمع بأكمله نحو الاسترخاء والفردية، والقضاء على الجماعي والموقف الجماعي، الذي ينشئه دين هذه الأمة وعقيدتها في تحرك أصحاب هذا الدين وتقدمهم. إلا أنني أرى بعين الحقيقة، انتصار كلمة الله، وأنظر ببصيرة المسلم المتفائل إلى تحقيق قول الله تعالى: } ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار{).
- وعن إسلامية الأدب، قال للإصلاح: (الأدب الإسلامي، هو الكلمة الطيبة المجنحة التي تبغي خير الإنسان وتقدمه وبناءه البشري المتوازن، بلا زيغ ولا انحراف ولا تزمت، سواء كانت تلك الكلمة نثرًا أو شعرًا… وبناء على ذلك، وانطلاقًا من هذا التعريف، أقول بإسلامية الأدب كفكرة ومصطلح… فإذا تحولت إسلامية الأدب ذريعة للانغلاق وعدم استيعاب التطور التقني والموضوعي المناسب والمفيد لنا، أو إذا تحولت إلى تكرار النفس واجترار التجارب مع الذهاب بعيدًا داخل النصوص الوعظية المباشرة في الشعر والقصة والمسرح والرواية، فإن ذلك نذير اضمحلال وتراجع كبير -لا سمح الله-، نرجو الله ألا يدخل الأدب الإسلامي هذا الباب).
- وفي عام 1918م، سجلت قناة الحوار الفضائية للوالد الكريم –رحمه الله- تسع حلقات، ضمن برنامج مراجعات، حاوره فيها الدكتور عزام التميمي، حول حياته ومسيرته، وفكره ومنهجه ورؤيته ومؤلفاته.
- مما قالوا في رثائه:
- الأديب عبدالله الطنطاوي (رئيس رابطة أدباء الشام): (لقد أمضى الأخ الحبيب أبو زياد حياته كلها في جماعة الإخوان المسلمين، فقد كان عضوًا فيها من المهد إلى اللحد، منذ كان في العاشرة من العمر مهاجرًا من حيفا الحبيبة إلى درعا الشقيقة ثم إلى دمشق، ليكون أحد أبرز الناشطين في حقل الدعوة بين الفلسطينيين خاصة، وزملائه الطلاب عامة… لقد فقدت الجماعة برحيله في هذه الأيام الشديدة الوطءِ على الإسلام والمسلمين، أحد قادتها المبرزين في العديد من الميادين، وشكّل رحيله خسارة فادحة للجماعة وللفكر الإخواني والأدب الإسلامي الرفيع.. رحمك الله أخانا الحبيب أبا زياد وأبدلك الله روضة من رياض الجنة، وستبقى آثارك معالم في طريق الدعوة والدعاة).
- محمد فاروق الإمام (مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية): كتب تحت عنوان: وترجل فارس الكلمة ويراعه مشرع: (محمد حمدان السيد، كان بالأمس بيننا، يملأ حياتنا أملًا واستشرافًا… واليوم، غادرنا ولمّا يقف يراعه عن العطاء حتى آخر لحظة من تصاعد أنفاسه، مبشرًا بغد مشرق يُطل على سورية، يبدد دجى الظلمة التي يلفها… بالأمس غادرنا أبو زياد، قبل أن تجف أوراقه، ولم يبخل علينا مداده، الذي كنا نستلهم منه الصبر والجلد والبذل والجهد والعطاء، دون كلل أو ملل، كما عوّدنا وكما علمنا. غادرنا أبو زياد، ولا تزال كلماته أجراسًا تدغدغ مسامعنا، فتشحن نفوسنا مزيدًا من النهوض والمثابرة والإقدام، دون الالتفات إلى الوراء، إلا بما يزيد من عزيمتنا وإصرارنا على الكفاح.
أبو زياد فارقنا ولم تفارقنا روحه، التي ستظل تحلق في سماء قلوبنا حتى نلحق به. نعاهدك أبا زياد، أننا سنظل على العهد؛ عهد الوفاء للقضية، فكما كنت حتى الرمق الأخير من أنفاسك مستلًّا قلمك، مشهرًا يراعك… سنظل على نفس الطريق حتى صعود النفس الأخير كما كان حالك، وحتى نلاقي الله كما لقيته، أحرارًا منتصبي القامة، مرفوعي الهامة، سلاحنا قرآننا وقلمنا، ومعيننا مدادنا، الذي لن يجف وفي عروقنا دم يتدفق، وبين صدورنا قلب يخفق).
- عمر العبسو (رابطة أدباء الشام): (هو الأستاذ، الأديب، الكاتب، القاص محمد حمدان السيد (أبو زياد)، الذي يعدّ من جيل الرواد في الأدب الإسلامي المعاصر. ينتمي إلى أسرة فلسطينية مسلمة هاجرت من فلسطين بعد النكبة، واستوطنت في مدينة درعا، ثم تنقّل في البلدان هربًا من الطواغيت، وما زال أستاذنا يعطي، ويكتب، ويتفجر حيوية ونشاطًا، حتى أدركه الموت واقفًا عزيزًا كريمًا… والأخ الكاتب محمد حمدان السيد إنسان طيب القلب، لطيف المعشر، محبوب من الجميع، يَأْلف، ويُؤْلَف، إسلامي الفكرة، نبيل الهدف، شريف الغاية، ملتزم في سلوكه).
- زهير سالم (مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية/ لندن): (نصف قرن من السير على الطريق، أخوين مقترنين ومتلازمين ومتقاربين..
أبو زياد وتزدحم الذكريات والكلمات والعبرات، وقل ما شئت عن ثبات وعن وفاء وعن كرم وعن شيم).
إيه يا أبي! وأنت من الرعيل الأول، رعيل الكتاتيب، التي خرّجتِ الأفضل والأعظم في عصرنا، الرعيل الذي لم يأت مثله من بعد، فماذا بعد يا أبتاه؟ وقلبي يئن من لذع الفراق، يا من كنت عينًا بصيرة أمينة، تطل على العالم وقضاياه، ويا لسانًا عليمًا ناطقًا بالحق، ويا صورة باهرة للرجل الداعية السياسي الملتزم بدينه، في مجالات العلم والفكر والعمل، يا عزيم الإرادة، متمثلًا “المحبرة معي حتى المقبرة”، حتى تسلل الضعف والوهن إلى جسدك، فأبت الروح إلا أن ترجع إلى بارئها راضية مرضية صابرة محتسبة، فصدق فيك قول الشاعر:
فإنْ تَكُنِ الأيّامُ فينا تَبَدّلَتْ |
بِبُؤْسى ونُعْمِى والحوادِثُ تَفْعَلُ |
|
فما لَيَّنَتْ منّا قناةً صَليبةً |
ولا ذَلَّلتْنَا للتي ليس تَجْمُلُ |
|
ولكنْ رَحَلْنَاها نُفوسًا كريمةً |
تُحَمِّلُ ما لا يُستطاعُ فتَحْمِلُ |
أبي.. واحدٌ وثمانون عامًا عاركتَ الحياة وعاركتك، مرت بك المسرات كما المحزنات، أبكاك رحيل الأحبة كما أسعدك لقاؤهم. ثمانون عامًا، وأنت على الطريق تنافح وتجاهد وتبذل بقلمك وفكرك وعلمك ونهجك، ما حدتَ يومًا عن الطريق، فكنت رجلًا من رائحة السلف الصالح، واسمح لي يا أبتاه أن أقتبس من كلماتك في قصصك، المعبرة عن مقامك ومكانتك فينا، فأقول: كنتَ لنا “الشراع المنقذ الموصل إلى شاطئ الرؤى الخضر”، والنجمةَ التي ابتدرت في خِضَمِ ثورة الندم، ومضةً “في سماء حالكة.. ترتفع وترتفع”، صحوةً “هزت أجفان النجوم القابضة على وحل الطريق”، وَحدةً “مسحت عن قلوب الرجال ران الوهن”، قُدوةً “لفظت آخر أنفاس الليل وحلقت، ركلت آخر قيد وانطلقت”، دعوةً “همست في أذن الزمن بهمسة ملاك”، يا من كنت تجمع وتبني، حتى “لا تنحني الدعوة، ولا تنثني القدوة، ولا تنفصل الدعوة، ولا تغفو الصحوة، ولا تخبو الومضة”.
أبتاه.. وما المرء بفاعل شيئًا أمام قدر الله، إلا الرضا والصبر؛ فأقدار الله نافذةٌ لا مفر منها، والعهد والوفاء للراحلين، وعزاؤنا أنك عند رب كريم جواد، رحمن رحيم، الذي وعد عباده ولا يخلف الله الميعاد، فقال عز وجل:} إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب {الزمر/10.
وليس بوسعي سوى القول: طوبى لك يا والدي الحبيب الغالي، يا حكمةً وتواضعًا وكرمًا ملأ حياتنا، يا إنسان عيني، وبهجة روحي، هنيئًا لك مقامك عند ربك، ونحن شهود الله في الأرض، فقد أسلمت الروح ولسانك لا يفتأ ذاكرًا موحِّدًا مصلّيًا على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فأي كرم رباني ذاك الذي أكرمك الله به يا والدي الحبيب! فطوبى لك يا مهجة القلب. وهذا قدر كلِّ حيٍّ فينا، إنما طوبى لمن أتى الله بقلب سليم، معلق بالله وحده.
قيل لرجل: كم عمرك؟ قال: عمري ستون عامًا. فقيل: أنت منذ ستين عامًا وأنت تمشي إلى الله.
وأنت يا أبي نحسبك كذلك، ولا نزكي على الله أحدًا، فقرابة سبعين عامًا ونيفٍ، وأنت تمشي إلى الله، فهنيئًا لي تقبيلَ تلك الرِّجْلِ الطاهرةِ، التي طالما مشت إلى رحاب الله وسعتْ إلى خير البلاد والعباد، وهنيئًا لك يا أبي مقامك عند ربك.. والصبر والجبر لقلوبنا المكلومة التي أنهكها الفراق، إلى أن نلقاك في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر بإذنه تعالى، ونحن إلى ذلك الحين، ستبقى قلوبنا وألسنتنا تلهج بالدعاء لك، والمواظبة على برّك، وسيبقى قول الشاعر يتردد في أرجائنا، وصداه يعلو في نفوسنا:
أبتي أُفاخرُ حيثما قيلَ ابنُه |
وأَتيهُ زَهوًا أَنَّ مَثلَكَ لي أبُ |
|
أُسقِيتُ حبَّك مِنْ زُلالِ تَعَامُلٍ |
وأنا بصبرِكَ في الشدائدِ مُعجَبُ |
|
يا تاجنَا؛ إنْ يسألوا عن تاجِنَا |
أسماعُنا لندائِه كم تَطرَبُ |
|
ابنتك المحبة الساعية إلى بِرّك: الدكتورة تمام محمد السيد