لما كان الإسلام دين الحياة؛ فإن أهم ما يميزه هو أنه قدم للناس نظاماً في كل قطاع من قطاعات الحياة، ومن ذلك النظام الصحي طوال العام، والنظام الصحي في شهر رمضان خاصة، وكأن النظام الصحي الذي يقدمه الإسلام في رمضان هو نموذج يحتذى به في غيره من الشهور.
الصيام صحة
وأول ما يظهر من عناية الإسلام بالصحة في رمضان هو الصيام ذاته؛ لأن جوهر الصيام الامتناع عن المغذيات من الطعام والشراب وغيرها، ولهذا جعل الأحناف الصيام عبادة معقولة المعنى، وجعلوا أن كل مغذ يفسد الصيام؛ لأن أصل الصيام هو الجوع والامتناع عن كل ما يغذي الجسد من الطعام والشراب وغيرهما.
وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والصحة، وجعل الصيام إحدى الوسائل التي تحافظ على الصحة، فيما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا تصحوا»، وفي رواية: «جوعوا تصحوا»، وهما عندي معنيان متقاربان لكنهما متباينان، فالصوم بمعناه الشرعي يحافظ على صحة الإنسان، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى بعض فوائد تلك العبادة، ويحث عليها، فهي مع كونها عبادة يثاب المرء عليها عند الله تعالى، فهي في الوقت ذاته إحدى وسائل الحفاظ على الصحة.
بل لعلنا إن توسعنا في دلالة قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) بان لنا أن الصيام يقينا كل الأمور الضارة، من المحرمات التي تضر دين الإنسان، والأمراض التي تضر بدن الإنسان، والأمراض التي تضر نفس الإنسان.
المعدة بيت الداء
وفي الصيام راحة للبدن من التعب والضغط الذي يتولد عن طريق كثرة الطعام والشراب، فترتاح أجهزة بدن الإنسان خاصة المعدة، التي قال عنها الحارث بن كلدة، طبيب العرب: «المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء»، فالصيام يحفظ البدن من الإصابة بالأمراض، من خلال الحفاظ على أداء الوظائف، وكذلك حفظ الأنسجة من التهالك أو التعرض للتلف أو الفساد.
الأنظمة الصحية الحديثة والصيام
ولعل الصيام يتشابه مع بعض النظم الصحية التي ينادي بها كثير من الأطباء اليوم، مثل نظام اللقيمات، وهو -كما يشاع- مأخوذ من الهدي النبوي، كما جاء في حديث المقداد بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (رواه الترمذي وحسنه).
والإنسان في العادة يعطي الطعام عناية أكثر من غيره، ثم يأتي الشراب ثم يأتي النفس، ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم الطعام على الشراب، وقدم الشراب على النفس؛ مراعاة للخطورة من كثرة الطعام أولاً ثم كثرة الشراب، فضرر الطعام غالباً أكبر من ضرر الشراب، والحاجة إلى النفس أعظم من الحاجة إلى الطعام والشراب، وحاجة المرء إلى الشراب أولى من حاجته إلى الطعام، وذلك أن النفس يتعلق بروح الإنسان وحياته، وأن الماء يتعلق أيضاً بالإبقاء على بدن الإنسان وصحته أكثر، وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30).
وهو أعلى من نظام الصيام المتقطع الذي ينادي به كثير من الأطباء؛ للحفاظ على الصحة ومعالجة السمنة وتخفيف الوزن، وما يتبع ذلك من فوائد صحية، تطالع في الكتب الطبية.
فبقاء الإنسان دون طعام وشراب مدة أكثر من أربع عشرة ساعة أو أكثر من ست عشرة ساعة تريح البدن وتعيد له نشاطه وحيويته؛ فيستطيع أن يقوم بوظائفه على الوجه الأكمل، كما أن الصيام يشعر المرء بالراحة النفسية والسعادة.
ولعل الهدي النبوي في الصيام يوضح أصول الحفاظ على الصحة، ومن ذلك:
– تعجيل الإفطار:
فمن السُّنة تعجيل الإفطار، كما ورد في الحديث المتفق عليه: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر».
وهذه السُّنة فيها فوائد صحية كثيرة، ومنها: عدم الضغط على الجسد أكثر مما ينبغي، فيكفي للجسد الامتناع عن الطعام والشراب مدة الصيام، وتأخير الإفطار يزيد انخفاض نسبة سكر الدم ويؤدي إلى أن يشعر الصائم بالهبوط العام، وكذلك الشعور بالتعب، فناسب أن يعجل بالإفطار.
– الإفطار على تمرات وماء:
كما أن من السُّنة أن يكون الإفطار على تمرات أو تمرات وماء، كما ورد عند أبي داود والترمذي من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء، فإنه طهور».
والحكمة في الإفطار على تمرات وماء هو أن الجسد يكون بعد فترة الصيام الطويلة بحاجة إلى مصدر سكري سريع الهضم حتى يسد الجوع، والتمر يحتوي على سكريات أحادية أو ثنائية وهو سريع الهضم مما يجعل المرء بعد تناوله يشعر بالشبع، مع ما يحتويه التمر من قيمة غذائية.
– تقسيم الفطر قبل الصلاة وبعده:
ومن السُّنن التي تتعلق بالإفطار هو أن يفطر المرء قبل الصلاة على تمرات ثم يصلي المغرب ثم بعد ذلك يتناول طعام فطوره، وهذا الفصل بمثابة التنبيه للمعدة، حتى تستعد لإدخال الطعام؛ بدلاً من إدخال الطعام بكثرة فيها دفعة واحدة؛ مما قد يترتب عليه الشعور بالتعب والإثقال على المعدة.
ومع الطعام على المرء ألا يسرف في الطعام والشراب؛ لأنه منهي عنه؛ لما فيه من الضرر الحال من الكثرة، فالجسد يحتاج إلى قيمة غذائية بعينها، إن تحصلها شعر الجسد بالشبع، فالشبع لا يحصل بكثرة الطعام وحده، وإنما بالقيمة الغذائية، بل ربما إن لم يتحصل الجسد على القيمة الغذائية؛ فإن المرء يظل يشعر بالجوع، وهي رسالة من الجسد للدلالة على نقصان بعض الفيتامينات، فإذا أكل الإنسان طعاماً فيه ذلك الفيتامين؛ شعر المرء بالشبع.
– الحرص على السحور:
ومن النظام الصحي في رمضان الحرص على السحور، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، ففي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تسحروا فإن في السحور بركة».
فهو يعين المسلم على مواصلة الصيام، وألا يشعر بالتعب في وقت مبكر من النهار، ولهذا كان من السُّنة أيضاً تأخير السحور؛ وهذا يعني ألا يطيل المرء مدة الصيام، فإذا تسحر متأخراً قبل الفجر، وأفطر عند المغرب؛ لم تكن هناك إطالة لمدة الصوم؛ فيقدر عليها المرء ولا يجد فيها مشقة، ولهذا ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور».
ومن الطب أن يحرص الإنسان على أن يكون سحوره مما يفيد الجسد ويقيه العطش أكثر من الجوع؛ كالفاكهة من التمر والموز والبطيخ وكذلك الخضراوات الغنية بالألياف ونسبة الماء؛ فإنها تملأ المعدة، ولا تشعر صاحبها بالعطش، والإنسان في صيامه ربما لا يجد مشقة في ترك الطعام، لكنه قد يجد مشقة في ترك الماء، فهو إليه أحوج.
ومن النظام الصحي في رمضان استعمال السواك، وفيه فوائد عظمية في استعماله، وكذلك اختيار الطيب من الطعام، وأن ينوع المرء من طعامه في الإفطار والسحور.
كما أن صلاة التراويح والتهجد مما تساهم في الحفاظ على الصحة؛ فالصلاة من الليل تطرد الأمراض من الجسد، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء من الجس» (رواه أبو داود والترمذي).