في الحلقة الماضية رأينا كيف كانت بين أمهات المؤمنين وسائر النساء الفقيهة والعالمة، ولقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تلك الناسكة الورعة في البيت النبوي، مدرسة تخرجت فيها عالمات ربانيات، حملن راية الإفتاء بعدها: ومنهن: عمرة بنت عبدالرحمن الأنصارية، وصفية بنت شيبة القرشية؛ وأم الدرداء الصغرى. (النووي، تهذيب الأسماء).
ويكفي للتدليل على دور تلك النساء ما كان لعمرة من موقف معارض لخروج الحسين رضي الله عنه إلى العراق، فعندما علمت بخروج الحسين كتبت إليه تعظم عليه ما يريد أن يصنع وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه.
وفي تاريخ دمشق، أورد ابن عساكر أن عمرة رضي الله عنها قالت عندما علمت بخروج الحسين: أشهد لحدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقتل حسين بأرض بابل»، ولما قرأ الحسين كتابها قال: لا بد لي إذا من مصرعي، ومضى!
وفي عهد التابعين؛ كان في المدينة النبوية سبعة علماء أجلاء لقبوا بفقهاء المدينة السبعة، واشتهروا بأخذ كل واحد منهم العلمَ عن فقيهات؛ فسعيد بن المسيّب أخذ عن عائشة وأم سلمة؛ وعروة بن الزبير أخذ عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وعن خالته أم المؤمنين عائشة التي لازمها وتفقه بها؛ كما في «سير أعلام النبلاء» للذهبي، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق تربّى في حِجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها وأكثر عنها؛ وسابعهم الفقيه الشاعر عُبيد الله بن عبدالله الهذلي أخذ العلم عن عائشة وأم سلمة.
تابعيات رائدات في الفقه
ويزخر التاريخ الإسلامي بنساء فقيهات بلغت شهرتهن في الورع والعلم الآفاق، ومنهن: زينب بنت أبي سلمة المخزومية المتوفية سنة 73هـ كانت أفقه نساء زمانها بالمدينة، وهجمية الدمشقية المشهورة بأم الدرداء المتوفية سنة 81هـ وكانت فقيهة كبيرة ومحدثة عن النبي الكريم.
وعن يحيى الغساني، قال: كان عبدالملك بن مروان كثيراً ما يجلس إلى أم الدرداء في مؤخر المسجد بدمشق. (الذهبي، سير أعلام النبلاء: ج4).
كم برزت بين الفقيهات خديجة التنوخي، وهي أشهر مفتيات القرن الثالث الهجري في بلاد المغرب، وتميزت بالعقل والرأي والعلم والفضل، أخذت العلم عن والدها حامل لواء المذهب المالكي في المغرب وكان يستشيرها في مهمات أموره ويستفتيها الناس في مسائل دينهم. (عمر كحالة، أعلام النساء: 5/ 311).
وأيضًا الفقيهة أمة الواحد بنت القاضي أبي عبدالله المحاملي المتوفية سنة 377هـ، وكانت تفتي مع أبي علي بن هريرة، وكذلك فاطمة السمرقندي التي عاصرت الملك العادل نور الدين المتوفي سنة 596هـ، من فقيهات المذهب الحنفي (كحالة: 4/ 94).
وتعتبر عائشة الباعونية المتوفية سنة 922هـ من أشهر فقيهات عصرها، وهي أول واحدة بين المفتيات تأخذ فتواها صيغة رسمية في القرن العاشر الهجري.
شيخات الأربطة
خصص المسلمون بعض الخوانق والربط والزوايا للنساء خاصة، يقمن فيها ويتلقين بعض الدروس في الدين من القرآن والحديث والفقه والأدب من شعر ونثر، ومن أشهر هذه الربط النسوية «رباط البغدادية» الذي بنته السيدة الجليلة تذكار باي ابنة الملك الظاهر بيبرس سنة 684هـ للشيخة الفاضلة الزاهدة زينب ابنة أبي البركات البغدادية (توفيت 714هـ) (محمد أطلس، التربية في الإسلام، نقلاً عن الخطط المقريزية 4/ 294).
وفي العصر الإسلامي الأول لم يكن هناك تواجد للمرأة «شيخة الرباط»، فالنساء اللاتي تم حصرهن ينتمين كلهن إلى العصور الإسلامية الوسطى في الفترة من القرن السادس الهجري إلى القرن التاسع الهجري، وهي الفترة التي انتشر فيها التصوف وأنشئت الربط والزوايا في العالم الإسلامي، ونرى أن هؤلاء النساء على قلتهن عدداً، كن كلهن تقيات عالمات يقمن جلسات لقراءة القرآن وتعليمه والتسبيح والذكر، إلى جانب المسؤولية الإدارية التي كن يقمن بها أحسن قيام مثل توفير المأكل والملبس والمأوى لمن يلجأ إليهن من الأرامل والعجائز والفقراء، ومن هؤلاء: عائشة الرفاعي المتوفية سنة 837هـ أنشأت رباطًا أسفل مكة يعرف بها ووقفت عليه دارًا بباب الصفا مطلة على المسجد، وفي الوقت نفس كانت قائمة بالمشيخة أحسن قيام. (السخاوي، الضوء اللامع: 12/ 77).
وقد كانت النساء تدرّسن أيضاً في ساحات المساجد، ومن هؤلاء الشيخة شهدة المعروفة بفخر النساء، وقد توفيت سنة 574هـ، وذكرت المصادر أنها كانت «تقيم حلقات ألحقت فيها الأصاغر والأكابر». (ابن خلكان: 2/ 172)، وفاطمة السمرقندي الفقيهة الفاضلة وابنة أحد أكبر علماء المذهب الحنفي، وقد تصدت لتدريس الفقه في عصر الملك العادل نور الدين، تنقلت فاطمة مع زوجها في الأمصار مسافراً إلى بلاد الروم، ثم إلى بلاد الشام، واستقرا في حلب الشهباء مجاورين للملك العادل نور الدين محمود، ومشاركين في خدمة المسلمين في دولة الأيوبيين. (السمرقندي، تحفة الفقهاء).
إلى جانب ست الشام خاتون، كان لنساء سلاطين وأمراء الدولة الأيوبية المسميات بـ«الخاتونات» دور في رعاية العلم وبناء المدارس وإطلاق ما يسمى بالوقف التعليمي.
سلاسل بيوت العلم
لقد أظهرت كتب التراجم مثل «سير أعلام النبلاء» للذهبي فكرة الاحتفاء بالنساء الفقيهات المنتسبات إلى الطبقة العلمية، ومنهن فاطمة بنت الحسن الدقاق، وكريمة المرزوية، وهن جزء من النخبة العلمية للنساء من خراسان وانتشاراً غرباً نحو دمشق والقاهرة، وقد لوحظ مشاركة المرأة بقوة في رواية الحديث، واكتسبت تلك النخبة النسائية سلطتها الاجتماعية والسياسية من خلال انتسابهن لبيوت العلماء، وكذلك اعتماداً على تفتت السلطة المركزية العباسية وظهور الدويلات الإقليمية المستقلة. (أسماء محمد، المرأة ونقل المعرفة في الإسلام).
وقد شهدت الفقيهة فاطمة الدقاق محنة زوجها الإمام الشافعي القشيري مع النخبة الحاكمة التي تميل للعنهم وطردهم أوائل القرن السابع الهجري حين اجتاح المغول بغداد 618هـ/ 1221م، وظهرت الدويلات السلجوقية وغيرها وتزعزعت أركان الدولة العباسية.
ويلاحظ أن النساء الفقيهات قمن بدور بارز في «الوقف الخيري»، وكان لهن دور محوري في الشبكات العلمية كطالبات وشيخات، وكان دأب علماء الشافعية والحنابلة باستيعاب الجنسين في التعليم الديني، وقد كانت تشد الرحال للحصول على إجازة من المحدّثات زينب بنت الكمال وشهدة الكاتبة. (أسماء محمد، مصدر سابق).
شيخات العلماء
الجميل أنه لم يجد كبار العلماء حرجًا قط من ذكر شيخاتِهم، فقد اشتُهر أن العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله بتلقي العلم عن شيخات بلغ عددهن 42 شيخة، وكان حجة الإسلام ابن تيمية يشيد بشيخاته الأربع، وهن: أم الخير ست العرب بنت يحيى؛ أخذ عنها سنة 681هـ، والشيخة أم العرب فاطمة بنت أبي القاسم، والشيخة أم أحمد زينب بن مكي، وكذا الشيخة أم محمد زينب بنت أحمد.
وكذلك شيخ الإسلام ابن القيم تلقى العلم من مشايخ نساء كُثر، منهن المصريتان خديجة أحمد محمد الأصبهاني، وأم عبدالكريم الأنصاري.
يقول الإمام ابن حزم: وهن -أي النساء- علمنني القرآن وروينني كثيراً من الأشعار ودربنني في الخط، فبرزت حفصة بنت الحاج الركونية، وولادة بنت المستكفي، وغيرهما، وكن يدرسن للرجال والنساء في المساجد وارتحلن كمعلمات إلى المغرب العربي.
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله عن فاطمة بنت محمد الرازي: كانت شيختنا فاطمة واعظة متعبدة، لها رباط تجتمع فيه الزاهدات.
وكانت المحدثة الفقيهة كريمة بنت أحمد المروزية، قد تتلمذ على يديها كبار علماء عصرها وإليها ينتهي أعلى سند لصحيح الإمام البخاري، وأصبحت من محدثات القرن الخامس الهجري.
أما السيدة نفيسة العالية القدر ابنة الإمام الحسن الأنور، المنتهي نسبها إلى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، والملقبة بـ«نفيسة العلم» فهي مثال للعلم والزهد، فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى شيوخه، ثم رحلت مع زوجها إلى مصر في رمضان عام 193هـ في عهد هارون الرشيد، واستقبلها أهل مصر بالتكبير والتهليل، ويعتبر الإمام الشافعي أكثر العلماء جلوساً إليها وأخذاً عنها، في الوقت الذي بلغ فيه من الإمامة في الفقه مكاناً عظيماً، فقد كان يعتبر مجلسه في دارها مجلس تعلم عنها، ومجلسه في مسجد الفسطاط مجلس تعليم الناس.