إن أعظم ما في هذا الدين وأخطره التوازن، التوازن بمعناه الدقيق الذي يجعل العبد وسطاً بين الإفراط والتفريط، بين الطمع المطغي والخوف المحبط، بين الإقبال اللاهب والإدبار الذاهب؛ ولذا عني أهل السلوك ورواد التربية بالحديث عن الخوف والرجاء، وتحقيق التوازن بين هاتين المنزلتين إذ إنه أمر جد خطير.
والمتأمل في آيات القرآن الكريم وسُنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذا التوازن بين الدعوة إلى الخوف والدعوة إلى الرجاء، فبينما تقرأ في القرآن الكريم: (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف: 99)، وتقرأ: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وتقرأ: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران: 106).
تقرأ في الوقت ذاته: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) (القارعة: 6- 9)، وتقرأ: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف: 167).
وكم جمعت آيات القرآن العظيم بين الدرجتين في توازن عجيب ونظم بديع فريد، فنقرأ قوله تعالى في مقام مدح الأنبياء والدعوة إلى الاقتداء بهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).
ونجد في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أَبي هريرة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الكافِرُ مَا عِند اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنطَ مِنْ جنَّتِهِ أَحَدٌ» (رواه مسلم).
كما نسمع الحبيب المربي صلى الله عليه وسلم يقول: «الجنة أقرب إلى أحدِكم من عُنُق راحلته، والنار مثل ذلك بينهما هذا وهذا: أن يموت على الإيمان فيدخل الجنة، وأن يموت على الكفر فيدخل النار».
وفي صحيح البخاري، عن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
والعبد حين يتأمل هذه النصوص الكريمة؛ قرآناً وسُنة، يحمل نفسه على التوازن بين المنزلتين؛ فخوفه يحمله على ترك المعاصي والبعد عن حماها حتى يحوم حولها فضلاً عن أن يقع فيها، والرجاء يحمله على الطمع في غفران الله تعالى لما بدر منه من معاصٍ وسيئات.
وقد اعتنى علماء التربية قديماً وحديثاً بهذه المنزلة من منازل السائرين إلى الله رب العالمين؛ فنبهوا وذكّروا بخطورتها وأهميتها، فقد عاش سلفنا الصالح معنى هذه المنزلة ووازنوا بين الخوف والرجاء؛ فتركوا لنا آثاراً باهرة؛ قولاً وسلوكاً، وتأصيلاً وتنزيلاً.
فتجد الفضيل بن عياض يقول: إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله، ويقول: من خاف الله دله الخوف على كل خير.
وتجد أبا القاسم الحكيم يقول: من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه.
وهذا قريب من قول أبي نواس:
أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ
أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت السيد المولى الغفورُ
فإن عذبتني فبسوء فِعْلي وإن تغفر فأنت به جديرُ
أفر إليك منك.. وأين إلا إليك يفر منك المستجير
وصاحب الكلام الأخَّاذ يحيى بن معاذ يقول: ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويُلحقها حسنتين؛ خوف العقاب، ورجاء العفو.
وكما نقل عنهم الخوف نقل عنهم الرجاء، ولكل مقام حال ومقال؛ فهذا معاوية رضي الله عنه وأرضاه لما احتضر قيل له: ألا توصي؟ فقال: اللهم أقل العثرة، واعفُ عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك.
وهذا حماد بن سلمة يقول: والله لو خُيرت بين محاسبة الله لي، وبين محاسبة أبوي؛ لاخترت محاسبة الله، وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي.
ولا شك أن هذا مضمونه في القرآن واضح، فوصاية الله للوالدين بأولادهما معروفة، فهو سبحانه أرحم بالعبد من أبيه وأمه.
وكم نقل عن وكيع شيخ الشافعي أنه يبتدئ قبل أن يحدِّث، فيقول: ما هنالك إلا عفوه، ولا نعيش إلا في ستره، ولو كُشف الغطاء لكُشف عن أمر عظيم.
والخوف الحق له أثر، والرجاء الحق له أثر، فالخوف الحق يحمل العبد على ترك مقارفة الذنوب ويحمله على البعد عن اقتراف ما يغضب مولاه، وإلا فخوفه خوف نفاقي ليس خوفاً صحيحاً، يقول صاحب «الإحياء» رحمه الله: إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف واحتراق القلب، ثم يقيض أثر الحرقة من القلب على الجوارح، بكفها عن المعاصي، وتقيدها بالطاعات، ولذلك قيل: ليس الخائف من يبكي، ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
وكما يقول ابن القيم، رحمه الله: الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ومحارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله.
وفي التوازن بين الخوف والرجاء يقول، وهو المربي السالك المجرب السائر: القلب في سبره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
وفي تصوير هذه الحالة التي تتنازع النفس في صرعها مع التوازنات، يقول الشيخ يوسف القرضاوي، رحمه الله:
يا ربّ أنت خلقتني من طينة ومن الذي لأصوله لا ينزع؟!
لولا هداك ونفخة علويّة أودعتها روحي لكان المصرع
فبها أصول على التّراب ترفّعا وبها أحلّق حين تصفو الأضلع
الطين يجذبني إليه بشدّة والروح تصعدني إليك وترفع
فإذا ارتقيت إلى رضاك فغايتي وإذا هبطت فدائما أتطلّع