خلق الله تعالى الناس وقدر في تركيبهم الاعتقاد الدافع للعمل، وأنزل عليهم شرعه المتضمن للعقيدة والعبادة، وما أكثر ما قرن في كتابه بين الإيمان والعمل الصالح، كمثل قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد: 29)، وكانت حركة القلب من حب وخوف ورجاء وغيرها دافعة لكل عمل، وسمي ذلك في اصطلاح أهل العلم بعلم أعمال القلوب أو الرقائق أو التصوف، وعلى كل فهذا العلم أصل في الإيمان تفرع منه العمل، والأحرى في تناوله إلحاقه بعلم العقيدة رأسًا فلا يُتصور أن مؤمنًا لم يقم في قلبه تلك المعاني، وقد تميز الصالحون من عباد الله في تناول هذا العلم من جهة الاستمداد والسلوك، فاستنبطوا مسائله من آيات الكتاب وصحيح السُّنة، وقرروا منه السلوك الموافق للهدي النبوي، بخلاف المخالفين لهم المعتمدين في تقريره على استحسانات خاطئة أو مجربات فاسدة.
منزلة الخوف والرجاء
الخوف والرجاء من معاني الإيمان التي يثبت بها ويزيد وينقص لها، قال تعالى في الخوف: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، فجعله شرطًا في الإيمان، وقال في الرجاء: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110)، فجعله مستلزمًا لصحيح العمل وخلوصه من الشرك، فليس أمر الخوف والرجاء برفاهة، وإنما هما من أصول الإيمان بالله تعالى ومعرفته، فالإله هو المحبوب المطاع، وعبادته تعني منتهى الحب مع منتهى الذل، ولا يكون المحبوب إلا مرجوًا، ولا يكون المطاع إلا مخافًا، ولذلك قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: «القلبُ في سيره إلى الله عزَّ وجلَّ بمنزلة الطَّائر، فالمحبَّة رأسه، والخوف والرَّجاء جناحاه، فمتى سلِم الرَّأس والجناحان، فالطائر جيِّدُ الطيران، ومتى قطع الرأس، مات الطائر، ومتى فقد الجناحان، فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر» (مدارج السالكين، 1/ 514).
سعة القلب لهما
القلب وعاء المعاني، متى صلح صلح سائر الجسد، وتمكُّن تلك المعاني من القلب هو الضامن للصلاح، فكيف يُعبد إله لا يرجى؟ وكيف تجتنب مساخط إله لا يُخاف؟! وقد جعل الله تلك المعاني الفطرية من عبادته، فعرفنا بعظيم أجره وجزيل ثوابه وسعة جنته لنرجوه، وعرفنا بعظيم عقابه وسوء مساخطه وعذاب ناره لنخافه، وأحب منا أن عبادته تلك ورضيها لنا؛ (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (الزمر: 7)، ويستحيل في الفطرة والعقل أن يتعارض الخوف والرجاء حتى في حق مخلوق قادر على بذل بعض الخير والشر، فكيف بالخالق العظيم القادر قدرة مطلقة على كل خير وشر؟! لكن أحوال القلب أن حاله متقلبة يغلب -أحياناً- أحد تلك المعاني على الآخر أو يتساويان، ومتى كان العبد فقيهاً بنفسه غلّب أحدهما حسب حاله، فمتى اعترض القلب العصيان غلّب الخوف ليتجنبه، ومتى ضعف القلب وعجز غلّب الرجاء ليحفزه.
والقلب المنتكس الذي لا يعرف الخوف من الله قلب جريء على حرماته كمن قال الله فيهم: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49} كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ {50} فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ {51} بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً {52} كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ) (المدثر)، والذي لا يعرف الرجاء في الله تعالى غافل عن سعة رحمته وعظيم فضله؛ (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس: 7)، أما أهل الإيمان فلا ينفكوا عن الخوف والرجاء ما دامت قلوبهم حية؛ (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة: 16)، وهذا التوازن هو العاصم من خوف يؤدي إلى اليأس من روح الله، أو رجاء يغفل عن أوامره ونواهيه.
الخوف والرجاء عند الصالحين
دائماً ما يستشكل البعض تحقق تلك المعاني في قلوب العارفين ظانين أن العلم بالله يمنع من مساخطه ويدفع لمراضيه فلا يكون القلب خائفًا من شيء أو راجيًا لشيء، وهذا غلط شاع بين كثير من الناس في العصور المتأخرة، حتى نسبوا لرابعة العدوية قولًا باطلًا وهو أنها دعت الله فقالت: «اللهم إني أعبدك ليس خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكنك إله تستحق العبادة»، وذلك مما لا يثبت عنها من جهة الإسناد ولا يصح من جهة المعنى، فاستحقاق الله العبادة لا ينفي أنه يُخاف ويُرجى، بل إن المألوه المعبود مستحق لصرف تلك المعاني إليه، فلا يتعارض حبه وعبادته مع الخوف منه والرجاء فيه فضلًا عن أمر الله تعالى بذلك وحبه من العبد أن يفعله، وهذا ما يفسر خوف الصحابة ورجاءهم حتى المبشرين منهم بالجنة، كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «لو نادى مناد من السماء أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم أجمعون إلا رجلاً واحداً لخفت أن أكون هو، ولو نادى مناد أيها الناس إنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون هو» (حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 35)، وأمثال ذلك في حكايات الصالحين كثير.
فتمكن هذه المعاني في كيمياء القلب هو علامة الصلاح ومبدأ العمل ومجلبة الاستقامة، نسأل الله تعالى أن نكون من الذين قال فيهم: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الإسراء: 57).