في زمنٍ كان ذوو الأنسابِ يختالون بأنسابِهم، ويزدهون بأحسابِهم، ويرفضون كلَ ما يُطامنُ(1) من كبريائِهم، ويخافتُ من شريفِ أصلِهم جاءَ هذا الفتى من ذؤابةِ(2) قومِهِ، ولكنَّهُ انحازَ عن أنسابِه وأحسابِه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا رغبةً في عطاءٍ، ولا رهبةً من جفاءٍ، ولكنْ رفضاً للشركِ وترحيباً بالتوحيدِ، وما نتمثلُ ذاك اليومَ الذي بدَّرَ فيهِ إلى الإسلامِ حتى قيلَ: إنَّهُ كان سابعُ سبعةٍ أسلموا أو عاشرُ عشرةٍ أسلموا(3) إلا ونعلمُ علمًا لا شكَّ فيهِ أنَّهُ جاءَ مع الأسْبَقين، وما نَسْتشرفُ ذاك اليوم الذي جعلَ فيه دارَهُ مركزًا سرياً يلتقي فيه الداعي صلى الله عليه وسلم بأتباعِ دعوتِهِ من وراءِ أعينِ قريشَ ليهديهم بهديه، ويصنعهم على عينه، إلا ونعلمُ علمًا لا ريب معه أنَّه كان فتى عالي الهمَّةِ تَصْبو نفسه إلى الغاياتِ الشريفةِ.
ولئنْ ذكرنا شبابَ فجرِ الدعوةِ، فلا بُدَّ أن يُثارَ ذكْره في الطليعةِ، وأن يثير ذكْرهُ إعجابنا وعجبنا، فإذا أزحنا طرفَ السترِ عن سيرتِهِ لنرى هذا الذي بَقِيَ خبره منثورًا بين روائع الأخبار، وبطون قيِّم الأسْفَارِ(4) لطالعنا شابًا في نحوِ السادسةِ عشرة من عمرِهِ، ولئن أزحنا طرفَ السترِ أكثرَ لنرى من هو؛ فلسوفَ نرى الأرقمَ بنَ أبي الأرقمِ القرشي المخزومي رضي الله عنه، كان اسمه عبد مناف بن أسد بن عبدالله القرشي المخزومي، وكان يُكَنَّى بأبي عبدالله(5).
ولئن تراءت لنا عظمتُهُ، وأردنا أن نعرفَ بواعثَها وثمارَها، فلنقف مع خبره قليلًا.
في فجرِ الإسلامِ كان من الحكمةِ أن تُسرَّ الدعوةُ(6) حيثُ كانت قريشُ تتصدرُ الزعامة الدينية في جزيرة العرب، مما خلعَ عليها كياناً مميزاً أورثها مركز رئاسةِ القبائلِ، ولئن قام صلى الله عليه وسلم بمُعَالَنَة(7) الدعوةِ في فجرِ سَيْرِها، ونبذِ عبادةِ الأصنامِ فإنَّهُ لا مفرَّ من الصدامِ المسلح مع قريش التي لم يكن لها من أخلاقٍ إلا اتِّـبَـاع عزِّها، ولا سبيلَ أمامَها إلا الاحتكام إلى أسيافِها، وإذا حكم السيفُ بينها وبين دعوةٍ ما زالت تحبو في مهدِها، لا عددَ ولا عُدَّةَ لها فإن للنتيجة وجهة واحدة ومؤكدة، ونشدت الضرورةُ المُلجئةُ مكانًـا آمنًـا يلتقي فيه الداعي صلى الله عليه وسلم بأتباعِ دعوتِهِ ليتحققَ مبدأُ سريةِ اللقاءاتِ، وهنا دنا التاريخ من أحد أنجادِهِ(8) وأمجادِهِ(9)، دنا من الأرقمِ بنِ أبي الأرقمِ رضي الله عنه الذي هيَّأ هذا المكان في دارِه مُبْدِيًا من ضروب الفداءِ ما أعلى سهمَهُ، وألَّقَ نجمَهُ في التاريخ الإسلامي العظيم، فإذا تسرَّبَ خبرَهُ إلى قومِهِ بني مخزومٍ الذين كانوا يرفعون لواءَ التنافسِ مع بني هاشمِ فإنَّهُ بحساباتِهم قد أتى نُكرًا تتهاوى أمامَهُ المعاذيرُ وكان الأرقمُ مدركًا لما يفعلُهُ.
ولم يدع النبيُّ صلى الله عليه وسلم مبدأَ السريةِ والخروجِ من دارِ الأرقمِ بن أبي الأرقم إلا عندما اكتملَ عددُ أتباعِهِ أربعينَ رجلاً؛ «وكان آخرهم إسلامًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلمَّا كملوا به أربعين خرجوا»(10).
وبعد.. فقد كان لموقفِ الأرقمِ ما بعدَهُ من أثرٍ بيّنٍ في وضعِ الأسسِ التي تطلبتها استمراريةُ الدعوةِ ونجاحاتُها كما قدَّر لها الله تعالى، ولئن دفعَ الأرقم إلى سَلْكِ دروبِ الفداءِ واتخاذ هذا الموقف الحاسم والحازم رجولتُه الباكرةُ، وشجاعته الوافرةُ فإنَّ الحكمةَ النبويةَ آثرتْ دارَهُ كمركزٍ سِرىٍّ لعدة أسبابٍ، منها:
– أن الأرقم كان في السادسةِ عشرة من عمرِهِ، ولئن فكرت قريش في هذا المركز السري فإن بصرها سوف يُصَوَّب إلى دورِ كبارِ الصحابةِ ثم يسير بحثُها خلف بصرها.
– أن الأرقمَ لم يكنْ معروفاً بإسلامِهِ آنذاكَ.
– وإذا عُرفَ عنهُ إسلامُهُ فإنهُ من بني مخزومٍ المعروفين بعدائِهم لبني هاشمٍ، فمن ذا الذي يجولُ بذهنِهِ أن محمداً يلتقي بأتباعِهِ في عقرِ دارِ أعدائِهِ؟
مما مكَّنَهُ صلى الله عليه وسلم من الاستتار بأصحابِهِ، والنأي بهم عن أذى قريش وحماقاتِها قرابةَ عامين، وكلُ ما فطنت لهُ قريش أنهُ يلتقي بأصحابِهِ في دارٍ عندَ الصفا، ولم تسعفْها الحيلُ إلى أي الدورِ هي.
وراحتْ الأيامُ في دورتِها تدورُ وأذِنَ النبي لأصحابِهِ بالهجرةِ، فبادرَ الأرقمُ مع المبادرين، وأقطعَهُ صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينةِ جزاءَ منحِهِ دارَهُ للدعوةِ بمكة، وما نحسبهُ الآن إلَّا وقد أقطعَهُ اللهُ قصوراً في الجنةِ.
فما نفهمهُ أنَّـهُ ما من شيء كان أرجى لهُ عندَ اللهِ من هذا العملِ، رغمَ أنهُ كان بدريًا ونفلَهُ النبي سيفًا في «بدرٍ»، وما فتئ سيفُهُ بيدِهِ حتى شهدَ «أُحداً» والمشاهدَ كلَها مع النبي صلى الله عليه وسلم(11).
ثمَّ.. لكأنَّ نفسَ الأرقمِ قد هفتْ إلى حيازةِ المناقبِ من جميعِ أطرافِها حتى لا يَفُتْهُ منها شيء، فوفد بنفسه على ماله دوام وبقاء عند الله عز وجل، فهل أتاكم هذا النبأ؟!
يروي عثمان بن الأرقم عن أبيه الأرقم: أنه تجهَّز يريد بيت المقدس، فلمَّا فرغ من جهازه جاء إلى النبي يودعه، فسألَهُ صلى الله عليه وسلم: «ما يخرجُكَ أحاجةٌ أم تجارةٌ؟»، فقال الأرقم: لا يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ولكني أريدُ الصلاةَ في بيتِ المقدسِ، فقال صلى الله عليه وسلم: «صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلا المسجدَ الحرامَ»(12)، فجلس الأرقم.
وعاش رضي الله عنهُ عمرًا مديدًا وحافلًا، وذاتْ يومٍ من سنةِ خمسٍ وخمسين هجريةٍ، استأثرَ اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ وعمرُهُ ثلاثة وثمانون عاماً، وكان قد أوصى بنيه بأن يُصَلِّي عليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكان سعد بالعقيق، فقال مروان بن الحكم والى المدينة من قِبَل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: يُحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب؟ وأراد أن يُصلي هو عليه، فأَبىَ بنو مخزوم عليه ذلك بإصرار، وجاء سعد بن أبي وقاص فأنفذ وصيته(13)، ثمَّ واروه ثرى البقيعِ الطيبِ، وبينَما المدينةُ الطيبة تنعاهُ مرتجةً، وقد ترك نعيه لوعة في قلبها لفرط حبهِ، أبحر هو إلى قصورِهِ في جنات ربه.
________________________
(1) طامن الأمر: سكَّنه وأوقفه.
(2) الذُؤابَةُ: أعلى المراتب، وذُؤابَةُ قَوْمِهِ: شَرِيفُهُمْ والْمُقَدَّمُ فيهم.
(3) الإصابة في معرفة الصحابة، ص 73، وورد في أسد الغابة (ص 70)، أنه كان الثاني عشر.
(4) أسْفار جمع سِفْر، والسِّفْرُ هو الكتاب الكبير.
(5) أسد الغابة، ص 70، والإصابة، ص 73.
(6) أي تبقى سرية.
(7) أي بالإعلان عنها والجهر بها.
(8) أنجاد: جمع نَجْد، والنَجْدُ: وهو الرجل الشجاع.
(9) أَمْجَاد: جمع مَجْد ومَجِيْد، والمَجِيْد هو العزيز الرفيع. (10) أسد الغابة، ص 70.
(11) الإصابة، ص 73.
(12) حديث صحيح: أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394) باختلاف يسير.
(13) أسد الغابة، ص 70، والإصابة، ص 73.