لم يعد مجردَ فكرةٍ أو دعوةٍ أو مقاربةٍ أو طرحٍ، لم يعد -حتى- مجردَ بدعةٍ تأخذ طريقها إلى الانتشار والاشتهار عَبْرَ ممارساتٍ تَتَلَصَّص وتَتَوَلَّج المجتمعات، مشروع «البيت الإبراهيميّ» يأتي اليوم في سياق سياسيّ تغييريّ كبير، يتم الترتيب له في أروقة الإعداد لاتخاذ القرار في الغرب ولاسيما أمريكا، التي لا تفتأ تمارس الإذلال والقهر للمنطقة العربية والإسلامية.
من أين جاءت الفكرة؟
بدأت الفكرة بالظهور في جامعة هارفارد، لتسارع بعد ذلك بقليل جامعة فلوريدا إلى تبني المشروع، ثم لم تلبث المراكز التابعة لجهاز المخابرات الأمريكية ولاسيما مؤسسة «راند» أنْ دسَّتْ أنْفَها في السياق؛ ليتحرك المشروع من الأقبية الأكاديمية إلى فضاء السياسة وأضواء الإعلام
ماذا يعني الدين الإبراهيميّ وما هي فكرته؟
تقوم فكرة الدين الإبراهيمي على بُعْدَين؛ الأول: البعد الدينيّ، والثاني: البعد السياسيّ، فأمّا البعد الدينيّ فيتكئ على أنّ الأديان السماوية الثلاثة لها جذر تاريخي وعقديّ واحد، هو ملة إبراهيم؛ بما يعني لدى المخططين إمكان العودة بالناس جميعا في المنطقة الشرق أوسطية إلى الأصل القديم، بدلا من التشاكس بسبب الخلاف العقديّ، وأمّا البعد السياسيّ فهو قائم على فكرة كانت قد لاحت لبعض المفكرين السياسيين، وهي مدى إمكان «تَدْيِين السياسة» بتطويع الدين لمصالح السياسة؛ ليؤدي دورا في إحلال السلام وإنهاء حالة الاحتراب، وبالطبع لا يمكن أن يتحقق هذا مع وجود تعددية عقدية.
ومن المعتاد في مثل هذه المشاريع الكبرى أن يكون للصفحة وجه آخر، وللصورة ظل مُوَازٍ، فما هو المشروع الحقيقيّ المطويّ وراء هذه الصفحة البادية للناظرين؟ المشروع الحقيقيّ بدأ منذ فترة ليست بالقصيرة، بدأ يوم أنْ تَحَوَّلَ “النِّظام العربيّ” الذي وُلِدَ من رحم “سايكس بيكو” إلى “النظام الشرق أوسطيّ” الذي تتزعمه إسرائيل، وذلك مع كامب ديفيد ومع انطلاق قطار التطبيع بعد طاولة مدريد، هذا النظام الجديد لا يمكن أن يقوم أو يدوم مع بقاء الإسلام على حاله، يأبى إلا أن يكون هو المهيمن على الدين كله والناسخ لكل ما سبقه من شرائع؛ لابد إذن من إذابة الفوارق وهدم الحواجز العقدية.
المصادمة للمحكمات
هل صحيحٌ أنّ الأمّة الإسلامية يَسَعُها أنْ تترك دينها لتدخل في دين يجمعها مع اليهود والنصارى في دين واحد؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال من الأمور التي لا يتلعثم مسلم في حسمها؛ فهذا المشروع مرفوض لدى المسلمين أجمعين، علمائِهم ودهمائِهم على حدّ سواء؛ فالأمر ليس مجرد مقترح لدين «لا طعم له ولا لون ولا رائحة!»، كما وصفه البعض، وإنّما هو مُضادّةٌ صريحة لمحكمات الإسلام وثوابته المعلومةِ من دين الله بالضرورة، بمشروع سياسي ديني تغييريّ له دور كبير في إتمام صفقة القرن.
لقد عُلِمَ بالاضطرار وبالنقل المتواتر أنّ أهل الكتاب مخاطَبُون بالإسلام كغيرهم من الناس، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، وجاهدهم عليه، ومن المحكمات الثوابت المجمع عليها والمعلومة من دين الله بالضرورة أنّ الإسلام لا يقبل الامتزاج بغيره من الأديان، وأنّه جاء ناسخًا لها جميعًا ومهيمنا عليها جميعا، وأنّ الإسلام لم ينزل ليكون للعرب وحدهم ولا لقوم دون قوم، وإنّما نزل ليكون دين الناس أجمعين إلى يوم الدين، والطريق الحصريّ الوحيد الذي يُدْخَلُ منه على الله تعالى.
نصوص قرآنية فاصلة
وهذه نماذج من النصوص القرآنية القاطعة في دلالتها على كل تلك الأمور المعلومة بالضرورة: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آلِ عِمْرَانَ: 85]، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (المائدة: 47)، (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)) (المائدة: 15-16) (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائد: 19) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157) (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (التوبة: 29) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 158) (مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (الأحزاب: 40).
فلماذا دعا القرآن لاتباع ملة إبراهيم؟
أمّا دعوة القرآن للأمة الإسلامية ولنبيها صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم فليس لأنّ دين إبراهيم يسع المسلمين واليهود والنصارى على حدٍّ سواء، وإنّما لأنّ هذه الأمّة حصرياً ورثت دين إبراهيم عليه السلام، فصار موروث إبراهيم من الحنيفية ملكاً حصرياً لهذه الأمة؛ لسببين، الأول: عموم رسالة الإسلام وهيمنتها، والثاني تحريف أهل الكتاب لدين إبراهيم ولما جاءهم من عند الله تعالى من الكتاب والدين والشريعة الإلهية، ولذلك قال تعالى: (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 135)، والآيات في سورة آل عمران حاسمة في بيان الحقيقة التي لا يصح أن تلتبس على أحد: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)) (آل عمران: 65-68).
فعلى الأمة الإسلامية أن تواجه هذا الخطر الداهم بالاعتصام بدينها، ولعل هذه الدعوة الفجّة توقظ في الأمة الإسلامية الحمية، وتبعث فيها الهمّة، وتزيدها يقظة واحترازاً، والله غالب على أمره.