إبراهيم الخليل أبو الأنبياء الذي فضله الله بحصر النبوة في عقبه، وقصرها في ذريته، فما من نبي بعد إبراهيم إلا من نسل إبراهيم (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.) العنكبوت/27.
وعَقَبَ أبو الأنبياء ولدين من بعده، إسماعيل وأمه السيدة هاجر المصرية التي هاجر بها إلى مكة المكرمة، ونشأ ولدها بين قبيلة جرهم العربية وتكلم بلسانها وتزوج منها (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.) إبراهيم/37.
وابنه الثاني إسحاق وأمه السيدة سارة التي بُشرت به من الملائكة (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ.) هود/71.
كانت الكثرة العددية من الأنبياء من نسل يعقوب بن إسحاق المعروف بإسرائيل عليهم السلام، كما أخبر رَسُول اللَّه ﷺ فقال: كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ….”متفق عليه”
ثم ختمت النبوة في نسل إسماعيل ببعثة النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مبعث الحقد والعداوة التي استمرت نارها واستعر أوارها في قلوب اليهود على العرب والمسلمين إلى الآن.
وتتجلى صورة الصراع في السعي للاستيلاء على الأرض المقدسة، والبقعة المباركة التي يراها اليهود هيكلهم الموعود، ويحج إليها النصارى باعتبارها مهد ميلاد المسيح عليه السلام، ويعتقد المسلمون أنها قبلتهم الأولى، ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم، وثالث المساجد المعظمة التي لا تشد الرحال إلا إليها:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.) الإسراء/1.
بل يُعتبر المسجد الأقصى وما حوله من الأرض المباركة، هو معيار القوة بين أصحاب الديانات الثلاثة، فمن كانت له الدولة، وفي صالحه الجولة، كانت القدس تحت يده وسلطانه، لذا استمر الصراع والنزاع الذي سجله التاريخ في سائر حقبه، حتى تلاقت الفكرة الصليبية مع الحركة الصهيونية، وتم بينهما التحالف ضد الإسلام والمسلمين، وبدأت النكبة بوعد بلفور الذي مكنت به بريطانيا عصابات الصهاينة من أرض فلسطين، وهو ما أطلق عليه “أعطى من لا يملك، من لا يستحق”.
ثم بلغ الاجتراء بالدعايا إلى دين جديد أطلق عليه “البيت الإبراهيمي” وهو عنوان الديانة الإبراهيمية التي تبشر بها الصهيونية العالمية، وتتبناها الصليبية الغربية، باعتبار أن إبراهيم عليه السلام هو العامل المشترك بين اليهودية والنصرانية والإسلام، وأن إنشاء البيت الإبراهيمي هو الحل الأمثل الذي تذوب فيه العداوات، وتختفي تحته الخلافات، من خلال تنقية النصوص المقدسة من كل ما يخالف توجهات الدين الجديد، ويُنْتقى منها كتاب واحد يكون هو المرجع الوحيد لأتباع الدين الجديد، وهو ما بدأ التمهيد له بالفعل في المدارس الدولية التي حذفت مادة التربية الدينية واستبدلتها بمادة الأخلاق العامة.
ويضطلع بهذا العبء من أسموهم القادة الروحيين من رجال الدين، الذين يؤمنون بفكرة الدين الجديد من علماء الأديان الثلاثة، وهذا يفسر استقطاب علماء ودعاة لهذه المهمة.
وهذه الهجمة على الإسلام ومحاولة تقويضة جديدة قديمة، كان مبعثها أولا حرب الإسلام ومنع انتشاره، وزاد عليها الآن البعد السياسي والعسكري في حل ما يعرف بالصراع العربي الإسرائيلي، وقيام الدولة اليهودية تحت مظلة الإبراهيمية، وظهرت دراسات لجامعات أمريكية تحدد حدود الدولة الإبراهيمية بمسار رحلات بأبي الأنبياء، وهو ما يعبر عنه الصهاينة بإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، لكن الأمريكان أضافوا إليها تركيا ربما نكاية في الرئيس أردوغان
وقد جابه هذه الجولات من حروب الردة علماء الأمة قديما وحديثا، وهو الدور المنوط بأعناقهم مع تجدد صولاتها وعودة جولاتها ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.﴾ آل عمران/67.
وحذر السلف من هذا الخلط، الذي سماه القرآن الكريم «اللبس» وذلك في قوله جل وعلا: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة/42.
قال قتادة رحمه الله: «لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، إن دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله» تفسير ابن أبي حاتم ” (1/98).
وتناول شيخ الإسلام ابن تيمية هذه البدعة بقوله: قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله؛ وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله، أو التدين بذلك، أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله، وبالقرآن وبالإسلام، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، وأصل ذلك المشابهة والمشاركة «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/540) .
وعلق عليها الشيخ بكر أبوزيد عضو هيئة كبار العلماء بقوله:
ليعلم كل مسلم عن حقيقة هذه الدعوة أنها فلسفية النزعة، سياسية النشأة، إلحادية الغاية، تبرز في لباس جديد، لأخذ ثأرهم من المسلمين، عقيدة، وأرضا، وملكا، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام ، ووهن المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم من خلال إسقاط جوهر الإسلام واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل دين الإسلام المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى.
وكان شيخ الأزهر د. أحمد الطيب قد حضر توقيع الوثيقة الإنسانية مع بابا الفاتيكان، ولما اتضح له بعدها أنها كانت أرضية لبناء البيت الإبراهيمي وتبشيرا بالدين الجديد أعلن رفضه للدعوة الإبراهيمية وبراءته منها.
(*) الأمين العام للهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.