يستلزم الحديث عن مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية تحديد المنوط بهم هذا التطبيق، لا سيما في العصر الحديث، حيث تنبغي التفرقة بين مستويين فيما يخص تحديد المكلفين بتطبيق الشريعة الإسلامية:
المستوى الأول: مستوى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهذ العمل يقوم به العلماء الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد الشرعي، التي تحدثتْ عنها باستفاضة كتب أصول الفقه الإسلامي، مع استعانة علماء الشرع بأهل الخبرة والاختصاص فيما يخص فقه الواقع لأنهم الأكثر دراية به، كلّ وفق اختصاصه، وباعتبارهم ضمن «أهل الذكر» كما ذهب بعض العلماء مثل الشيخ محمود شلتوت، والشيخ زكريا البري.
والمستوى الثاني: مستوى التنفيذ؛ أي تنفيذ الحكم الشرعي في الواقع المعيش، وهذا المستوى يقوم به كل من الفرد، والمجتمع (الأمة)، والإدارة (الحكومة أو السلطة)، والقضاء، كل بحسب مسؤولياته. (د. جمال الدين عطية في كتابه: النظرية العامة للشريعة الإسلامية).
وهكذا كانت الإجابة عن سؤال: من يطبق الشريعة في العالم الإسلامي، قبل فرض الدولة القومية الحديثة عليه؛ حيث كانت سلطة التشريع –عمليًا- في يد العلماء «المجتهدين» لاعتبارات موضوعية بحتة تتعلق بتمكنهم العلمي، وصلاحهم الشخصي بمعزل عن سلطة الحكم والسياسة التي لم تكن تتدخل في عملية التشريع إلا في حالات نادرة بعد امتلاكها أدوات الاجتهاد الشرعي، وفي نطاق أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها، فضلاً عن امتلاكها سلطة تعيين القضاة أو عزلهم، غير أن الحكام (أو الخلفاء أو الأئمة أو الولاة..)، حتى في هذا الاختصاص، كانت عليهم قيود أدبية ومجتمعية يخشون معها في الإفراط أو التفريط في استعمال سلطتهم هذه حتى لا تضيع مصداقيتهم بين الناس ويفقدون شرعيتهم السياسية. (انظر: د. وائل حلاق، السلطة القضائية والدولة – الأزمة الفقهية للإسلام في العصر الحديث).
أما مع فرض الدولة الحديثة على العالم الإسلامي بمؤسساتها وهياكلها وفلسفتها المختلفة عن كل ما مر على المسلمين من أنظمة مختلفة للحكم والإدارة، فقد ثار التساؤل عمن يختص بتطبيق الشريعة الإسلامية، في ظل تقسيم السلطات العامة في البلاد إلى سلطات ثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية، يعلوها حاكم للبلاد، يسمى رئيسًا أو ملكًا أو أميرًا أو سلطانًا، وفق دستور -مكتوب غالبًا- يحدد اختصاصات كل سلطة من هذه السلطات.
ومن اليسير القول مباشرة بأن هذه السلطات الثلاث (باعتبار أن الحاكم ينتمي لسلطة منهما، وهي السلطة التنفيذية، وإن كان هو المتحكم في هذه السلطات أو على الأقل الحَكَم بينها)، هي من ينطبق عليها مفهوم «أولي الأمر» في ظل الدولة القومية الحديثة، فهي التي تختص وحدها بتطبيق الشريعة الإسلامية في الدولة، وهذا ما ذهب للقول به غالبية الفقهاء الدستوريين والقانونيين، مثل أ.د. صوفي أبو طالب الذي ذهب إلى أن السلطات الثلاث هي التي ينطبق عليها مفهوم أولي الأمر في ظل النظم المعاصرة، أو على حد تعبيره: «ولي الأمر هو المؤسسة الدستورية في الدولة تبعًا لنظام هذه الدولة، هذا هو ولي الأمر في مفهوم العصر الحديث» (تقنين الشريعة الإسلامية في مجلس الشعب، 1983).
وهذا القول يختلف بالطبع عما استقر عليه الفقه الموروث من أن أولي الأمر ليسوا الحكام فقط، بل هم العلماء والأمراء، وليس الأمراء وحدهم كما هو في الوضع الحالي، وهذا ما قرره صراحة، على سبيل المثال، شيخ الإسلام ابن تيمية (في كتابه «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»)، والإمام الغزالي (في كتابه «المستصفى»).
كما أن الرأي السابق لم يشر إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أن من يستأمنهم الناس على تطبيق الشريعة الإسلامية ينبغي أن يكونوا قد جاؤوا باختيار حر (أو بيعة حرة) من هؤلاء الناس حتى يمثلونهم، وقد كانت هذه هي الحال بشأن اختيار العلماء على مدى التاريخ الإسلامي كله، وكذلك عند اختيار الخلفاء الراشدين.
وتجدر الملاحظة هنا، أن السلطة المنوط بها التشريع (البرلمان أو المجلس النيابي أيًا كان مسماه)، هي الأخرى ينبغي أن يتوافر في أعضائها أمران؛ أولهما: أن يكون اختيارهم كذلك قد تم عبر انتخاب حر ونزيه من الشعب حتى يكونوا نوابًا عنهم بالفعل، وثانيهما: أن تكون هناك جهة ما من العلماء الموثوق بهم للتأكد من عدم مخالفة التشريعات المزمع إصدارها من البرلمان قبل اعتمادها، ولا يصح الاعتراض على ذلك بحجة أن هذه ستكون سلطة دينية من «رجال الدين»، باعتبار أنه من المتعارف عليه أن تكون هناك لجان متخصصة تساعد أعضاء البرلمان في أعمالهم وتضم الخبراء في مجالات مختلفة، ومن ضمنها اللجنة التشريعية، واللجنة الاقتصادية، ولجنة التخطيط، فما المانع أن تكون لعلماء الشرع لجنة مستقلة، أو حتى تتواجد تحت مسمى «اللجنة التشريعية»!
والأمر الأهم من ذلك هو أن يكون الحاكم نفسه قد تمت بيعته أو جرى انتخابه بطريق حر ونزيه، ولم يفرض نفسه أو يفرضه أحد على الشعب، وإلا فكيف يؤتمن على تطبيق الشريعة حاكم مغتصب للسلطة قاهر للناس، متحكم في مؤسسات الدولة، ومن أهمها فيما نحن بصدده المؤسسات الدينية!
وينبغي في هذا الإطار الالتفات إلى إشارة مهمة ذكرها أ.د. عبدالحميد متولي في كتابه «مبادئ الحكم في الإسلام»، حين لفت النظر إلى أن «بعض علماء الشريعة يستعملون أحيانًا في كتاباتهم لا سيما في عهد ما قبل الثورة في مصر (يقصد ثورة 23 يوليو 1952)- اصطلاح «ولي الأمر» أي بصيغة المفرد، وهم يعنون به رئيس الدولة، مع أن القرآن الكريم لم يستعمل بتاتًا هذا الاصطلاح بهذه الصيغة، بل كان دائمًا لا يذكر إلا «أولي الأمر» بصيغة الجمع، هذه الملحوظة ليست كما يُظن مجرد مسألة شكلية، بل هي تنطوي على مغزى جوهري هو أن الإسلام لا يقر لفرد أن يستأثر وحده بجميع الحكم، أو بالاجتهاد والفُتيا في الشؤون الدينية».
ولذا، فإن الاهتمام بدور الحاكم في عملية التطبيق، بل وبدور السلطات الثلاث في الدولة الحديثة، ينبغي ألا يلهي عن الاهتمام بدور كل من الفرد والمجتمع في تنزيل الأحكام الشرعية الإسلامية الشاملة على أرض الواقع، فضلاً عن دور العلماء الأساسي في هذا الشأن، سواء في فهم النصوص الشرعية والدستورية، أم في عملية تطبيق الشريعة وتقنين أحكامها، فتطبيق الشريعة الإسلامية هو عملية تشاركية في الأساس، لكل ممن ذكرنا دوره فيها.
وقد كان من المؤسف أن الاتجاه الغالب للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية كان يتوجه إلى الدولة والحاكم المتغلب فيها، ولم يتوجه -إلا قليلًا- إلى الفرد المسلم والمجتمع المسلم، على حين أن غالبية التكاليف الشرعية موجهة إليهما، وأن الأمة في الإسلام هي الأصل، والسلطة الحاكمة هي الفرع، وإذا صَلُحَ حال الأصل انصلح حال الفرع، وإذا قام كل من الفرد والمجتمع بواجباتهما نحو تطبيق الشريعة، كل فيما يخصه، ستطبقها الدولة طواعية أو جبرًا!