من الناس من يعيش ويموت، ولا أحد يحس بعيشه أحد، ولا يبكي على موته أحد، فهو حي كالأموات، حاضر كالغائبين، وهو الذي قال في مثله الشاعر:
فذاك الذي إن عاش لم ينتفع به
وإن مات لا تبكي عليه أقاربه!
ومن الناس من يموت، فتستريح الأرض من شره، ويتنفس الناس الصعداء بموته، لما عانوه من ظلمه وعسفه، وطغيانه على الخلق، واعتدائه على الحق، وانتهاكه للحرمات، فلا غرو أن يتمنى الناس هلاكه، وأن يدعو عليه سراً وعلانية أن يربحهم الله منه، فإذا هلك قرؤوا قول الله تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 45)، وهذا شأن الفراعنة والجبابرة المستكبرين في الأرض بغير الحق، والذين نزل فيهم قوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان).
غاض النبع الفياض
وهناك من يموت فيترك فراغاً هائلاً بموته، تبكي عليه الأعين، وتأسى له الأفئدة، وتهتف له الألسنة بالتراحم عليه.
وهذا ما نحس به اليوم، حين رحل عن عالمنا رجل الدعوة والخير والإصلاح، رجل المواقف والفضائل: إنه أبو بدر عبد الله علي المطوع، الذي غادر دنيانا صبيحة الأحد 10 شعبان 1427هـ الموافق 3 سبتمبر 2006م، عن ثمانين عاماً حافلة بصالح الأعمال.
وهكذا غاض النبع الفياض الذي طالما ظل يتدفق بالخير والبذل والعطاء نحو ستين عاماً، يبذل من نفسه ووقته وجهده وماله في سبيل قضايا الإسلام وأمته، ومطالب دعوته، ونصرة شريعته وتوحيد أمته، وإحياء حضارته.
وانطفأت الشعلة المتقدة التي ظلت متوهجة، ترسل أشعتها نوراً وناراً؛ نوراً لطالبي الهداية، وناراً على دعاة الغواية.
ونفد زيت السراج الذي ظل يبعث نوره ليضيء الطريق للحائرين.
إنه أبو بدر، رئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت، رئيس مجلس إدارة مجلة “المجتمع” المعروفة بمواقفها الشجاعة، وصراحتها في نصرة الحق، ومقارعة الباطل.
إنه القاسم المشترك وراء كل عمل خير يسعى لمعونة أولي الفقر والحاجة من المسلمين، أو لسد الثغرات التي يحتاج إلى سدها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، فهو أبو الفقراء، وملاذ أصحاب المشروعات الإسلامية والإنسانية.
وهو قبلة كل من يأتي إلى الكويت لطلب المساعدة في المشروعات الخيرية الإسلامية من كل أقطار العالم، ولقد عرفته منذ نحو خمسة وأربعين عاماً تقريباً، إنما عرفت فيه إلا الصدق في القول، والإخلاص في العمل، والبذل في سبيل الله، والمشاركة في كل عمل نافع، لنصرة الإسلام، ونشر رسالته، والنهوض بأمته، رأيته في بيشاور في محاولات الإصلاح بين الإخوة المجاهدين في أفغانستان، ورأيته في فرنسا على افتتاح الكلية العلمية الإسلامية، ورأيته على مؤتمرات شتى تعمل للإسلام ولدعوة الإسلام وحضارة الإسلام.
وحسب أبي بدر عندي فخراً أنه كان أول من ساند دعوتي لإقامة مؤسسة تحافظ على الوجود الإسلامي للأمة في مواجهة خطة التنصير التي قررها المنصرون الأمريكان الذين اجتمعوا في ولاية كولورادوا سنة 1978م في مؤتمر قرورا فيه تنصير المسلمين في العالم، ورصدوا لذلك ألف مليون دولار، جمعوها في الحال، وأنشأوا لذلك معهداً سموه معهد “زويمر” لتخريج المبشرين المتخصصين في تنصير المسلمين.
وحين ناديت –في الجلسة الختامية لمؤتمر المصارف الإسلامية الذي انعقد في الكويت– بضرورة تأسيس هذه المؤسسة أو الهيئة، ورشحت أميناً عاماً لها الشيخ يوسف جاسم الحجي، وطلبت من الحضور أن يكونوا أول المساهمين في إنشاء هذا الكيان المنشود.
مسارعة في الخيرات
وهنا لا أنسى موقف أبي بدر، رحمه الله، وغفر له وجعل الجنة مثواه، الذي أقبل عليَّ وهمس في أذني قائلاً: “إني أتبرع لهذا المشروع بمليون دولار، أودعها لحسابه في بيت التمويل الكويتي، وأرجوك ألا تعلن عن اسمي، ولقد وفقتَ كل التوفيق في اختيار يوسف الحجي لهذا الأمر، فهو الرجل الذي يُجمع الكويتيون على صدقه واستقامته وإخلاصه والرضا عنه، وهذا من بشائر الخير لفكرتك”.
وكانت هذه الخطوة بشرى بنجاح دعوتي، وقد بادرت بالإعلان عن التبرع بمليون دولار، دون أن أذكر اسم المتبرع كما طلب، ثم لم تمض مدة حتى عرف الناس من هو صاحب المليون.
ولم يكتف أبو بدر بذلك، بل ضم إلى المليون عمارتين من عماراته أوقفها لصالح المشروع.
وكان أبو بدر عضو اللجنة التحضيرية التي قامت بالإعداد للمشروع الكبير، مع يوسف الحجي، وسليمان الراجحي، وعبد الله العقيل، والفقير إلى الله تعالى، حتى تأسست الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وقامت بدورها الخيري والإنساني في العالم الإسلامي والعالمي.
وكان أبو بدر ضمن الوفد الذي قرر مجلس الإدارة أن يمر على دول الخليج وعلى أمرائها، وأن يعرض عليهم الفكرة، وشرح لهم أهدافها، وأنها لا تتدخل في السياسة، وإنما تحاول حماية المسلمين ممن يحاول تغيير عقيدتهم، واستلاب هويتهم.
وفعلاً كان الشيخ الحجي، وأبو بدر من الكويت، والشيخ عبد الله الأنصاري، والفقير إليه تعالى من قطر، والشيخ عيسى بن محمد آل خليفة من البحرين، وقد مررنا على أمير قطر السابق الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، ورحب بنا كل الترحيب، وأذن لنا بفتح حساب في قطر لجمع التبرعات لحساب الهيئة.
وكذلك التقينا بأمير البحرين الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، فاحتفى بنا غاية الاحتفاء، ووعدنا بأن يذلل الصعاب أمامنا.
وكان أبو بدر منذ نشأت الهيئة –وحتى لقي ربه– من أعمدتها الراسخة، ودعائمها الشامخة، كان عضو مجلس إدارتها، وعضو لجنتها التنفيذية وأمين المال لها، والساعد الأيمن لرئيسها، وسند العاملين فيها.
وكان هذا شأنه مع كل مؤسسة خيرية وكل جمعية إسلامية، يشد أزرها، ويسند ظهرها، وينهض بها إذا تعثرت، ويقويها إذا ضعفت، ويزيدها قوة إذا اشتدت، ويمدها بالغذاء والوقود، حتى تنطلق إلى الأمام، وتستمر في انطلاقها وحركتها.
كان كذلك مع الهيئات العاملة في الكويت، لجنة مسلمي أفريقيا، ولجنة مسلمي آسيا، ولجنة مناصرة القضية الفلسطينية.
وأشهد أني ما قصدته في عمل خيري أو دعوي إلا كان عند حسن الظن، ما تلكأ ولا تردد مرة من المرات، وكأنما قصده الشاعر بقوله:
ما قال: “لا” قط إلا في تشهده
لولا التشهد كانت لاؤه “نعم”
حينما دعوت إلى تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قلت له: لن نستغني عن مساعدتك عندما ندعو إلى أول جمعية عمومية، قال: “أنا حاضر”، وأنا معك بقلبي وما أملك، وثق أننا جنود لك في مشروعاتك الكبرى، كما كنا معك عند دعوتك لتأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، وكما كنا معك عندماً دعوت إلى تأسيس موقع “إسلام أون لاين”.
وكان الرجل عند وعده، فأرسل إليَّ مبلغاً طيباً مع الأخ الجليل د. عجيل النشمي حفظه الله، وقال: “ما احتجتم إلى زيادة فأنا حاضر”، وذلك في أول اجتماع عقدناه في لندن في صيف سنة 2004م.
وفي آخر جلسة أقمناها في إسطنبول في يوليو 2006م، لم يبخل علينا بما نحتاج إليه، ووعد بالمزيد.
وكنت أبعث إليه ببعض رسائل التوصية لبعض طالبي المعونات، وأصحاب المشروعات من قارات الدنيا المختلفة، فلا يخرج أحد من عنده إلا مرضياً، رغم كثرة الطالبين، كما قال الشاعر:
يزدحم الناس على بابه
والمنهل العذب كثير الزحام
وقد بارك الله له في ماله، ما ورثه وما كسبه، وما تركه والده له من وصية، فكان كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: “نعم المال الصالح للمرء الصالح”.
وكما قال الشاعر:
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
تراه إذا ما جئته متهللاً
كانت تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله
وكان كل زائر للكويت من طلاب الخير يبدأ بزيارة أبي بدر، وكان هو على رأس قائمة من أهل البر والخير والإحسان في الكويت، فإذا وجدوا أبا بدر قد بدأ، كانوا على أثره، فهو أيضاً يتحرى حين يعطي، ولا يبذل لكل من هبَّ ودبَّ، فما أكثر الدجالين في هذا المجال! وقد بلوتهم بنفسي، وتبين أن هناك محترفين في استخراج الأموال، وهم لا يستحقونها.
صاحب الدعوة
لم يكن عبد الله المطوع مجرد رجل من ذوي الثراء، أو كما يقولون “ملياردير”، فقد عاش عمره صاحب دعوة، وحامل فكرة، وجندي رسالة، نذر لها عمره، ووهب لها وقته وماله وفكره.
فلم يشغله ماله عن دينه، ولم تلهه ثروته عن دعوته، بل كان كما وصف الله رواد بيوته، حين قال: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور).
لقد آمن بدعوة الإخوان المسلمين منذ فجر شبابه، وأخلص لها، وعاش فيها، وعاشت فيه، وكان من قياداتها المحلية والإقليمية والعالمية، ومع هذا عاش في الدعوة بروح الجندي المتواضع، لا بعقلية القائد المتعالي، فهو مع إخوانه كواحد منهم، بل لا يرى نفسه إلا دونهم.
لقد عرف مرشديها جميعاً وعرفوه، بدءاً من الإمام حسن البنا، الذي لقيه في موسم الحج عام 1946م، وكان عمره عشرين سنة، ثم تعرف على الأستاذ الهضيبي، والأساتذة التلمساني، وأبو النصر، ومشهور، والهضيبي الثاني، إلى الأستاذ مهدي عاكف، وكان نعم المعين لهم.
ولقد اشتركت معه لعدة سنوات في التنظيم العالمي للإخوان –قبل أن أستعفى منه– بل قبل أن ينشأ التنظيم بصفة رسمية، فكان يمثل القلب المتحرق، والوجدان الحي، والإرادة الصادقة، لتجاوز المشكلات والبحث عن الحلول والتطلع إلى الأفق الأعلى، يظل الساعات الطوال معنا، بل الأيام والليالي، ولا يقول ما يقوله رجال الأعمال عادة: إن الوقت عنده من ذهب، وكل دقيقة تمضي يستطيع أن يكسب فيها ألوفاً من الدراهم أو الدنانير، بل يرى أن وقته يجب أن يكون لله قبل أن يكون للتجارة والمال، شعاره: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).
الخلاف لا يفسد الود
وكنا كثيراً ما نختلف فكرياً حول بعض المواقف، فهو رجل مسلم محافظ، يمثل المحافظة، ولا يحب الخروج عليها، وقد تأثر إلى حد ما بإخواننا السفليين في عدد من القضايا.
ومن ذلك: موقفه من قضايا المرأة، فقد كان موقفه مع المتشددين، حتى إنه وقف ضد توجه أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد، وأيَّد الذين منعوا المرأة أن يكون لها صوت في الانتخاب، ناهيك أن ترشح نفسها لمجلس الأمة.
وقد اتصلت به هاتفياً من قطر، وحاولت أن أقنعه ليعدل من رأيه، وأن هذا ما تدل عليه النصوص الصحيحة الثبوت الصريحة الدلالة، وما تهدي إليه مقاصد الشريعة، وما يرد عن الإسلام تهمة إهمال شأن المرأة والاستهانة بها، على أن الأمور الاجتهادية والخلافية إذا رأى فيها ولي الأمر رأياً رفع الخلاف، فلماذا تخالفون أمير البلاد في أمر خلافي؟
وسكت أبو بدر حينما كلمته، ولكنه لم ينثن عن رأيه، وظل مخالفاً لأمير بلاده، لأنه يؤمن بأن موقفه حق.
وعندما أنشأنا “إسلام أون لاين”: دعونا أكثر من مائة شخصية معروفة من أسماء العالم الإسلامي، ومن أوروبا وأمريكا وغيرها، وكان فيها عدد من النساء من قطر والسعودية والخليج.
وحين اختار المجتمعون مجلس إدارة لهذه المؤسسة العالمية الوليدة كان منه امرأتان، وكان أبو بدر من الرافضين لذلك، وحاول بما له من وزن ومنزلة التأثير ضد هذا الرأي، ولكن التيار كان أقوى منه.
وبعد عودته إلى الكويت أرسل كتاباً يرجوني فيه ألا أقع في هذا الشَّرَك؛ إدخال المرأة في مجلس الإدارة، فما لهذا خلقت المرأة، ويلتمس مني مراجعة الأمر والتأني فيه!
ومع هذا الخلاف في مثل هذا الأمر، فلم يكن لينال المودة والأخوة الوثيقة التي بيننا مثقال ذرة، ما تغير حبي له، ولا حبه لي.
وقد حضرت ندوة في القاهرة حول “فقه الإعلام” في بداية تأسيس قناة “اقرأ”، وكان لي في هذه الندوة كلمة في الافتتاح، ومحاضرة حول هذا الفقه المنشود، ورأيت أن هذا الفقه لا يمكن أن يتم ويترسخ إلا إذا انبنى على قاعدتين أساسيتين:
1- قاعدة التيسير، وهي قاعدة مجمع عليها في الجملة، ثابتة بالقرآن والسُّنة، وإذا كانت لازمة في كل عصر، فهي ألزم ما تكون في عصرنا، وإذا كانت مطلوبة في كل شيء، فهي أكثر ما تكون طلباً في مجال الإعلام.
2- والقاعدة الثانية: قاعدة التدرج، فهو سُنة كونية وسُنة شرعية، ولا بد لمن يريد إنشاء إعلام إسلامي من التدرج.
وبهاتين القاعدتين، يجب أن نقبل الأعمال الدرامية، وإن كان لنا عليها بعض التحفظات، وأن نقبل وجود المرأة في التمثيل، وإن لم تكن كاملة الحجاب، وإلا تركنا الإعلام لغيرنا، وبقي إعلامنا مقصوراً على المواعظ والأحاديث والحوارات الدينية والفتاوى الشرعية.
وتولت مجلة “المجتمع” الهجوم على ما قلته، وكتب الكاتبون يردون عليَّ من المتشددين والظاهرية الجدد، وفسحت لهم المجلة المجال، ورد آخرون يؤيدون وجهة نظري، فلم تسمح لهم المجلة بنشر ردودهم، وكان هذا بتوجيه من أخي وحبيبي أبي بدر، ثقة منه بأن هذا هو الشرع، وما عداه خروج عنه، ومع هذا عذرته فيما فعل، وعاتبته حين لقيته بعد ذلك، واعتذر لي بلطف، وقال: “إني أخشى من فتح هذا الباب، ألا يقف عند حد، ولا ينضبط بضابط من كتاب أو سُنة”.
كان الذي يعجبني من مثل هذه المواقف المتشددة من أبي بدر أنه كان رجل صدق، لا يحابي في دين الله، ويقف بالمرصاد لكل موقف باطل، ولكل طاغية مستكبر، وأصبحت مجلته “المجتمع” لسان الحق المر، والصدق الخالص.
كان صاحب مُثل وفضائل، كلها تنبع من شعب الإيمان، فهو إذا حدث صدق، وإذا وعد أنجز، وإذا اؤتمن أدى، وإذا عاهد وفَّى، وإذا خاصم أنصف، وإذا أُعطي شكر، وإذا أوذي صبر، وإذا أسيء إليه غفر.
كان محبباً ومحترماً بين مواطنيه جميعاً، فقد كان في الكويت: السلفيون والصوفيون والمذهبيون واللامذهبيون والقوميون والعلمانيون والليبراليون والماركسيون، كانوا يخالفونه ويخالفهم، ولكنهم جميعاً يحترمونه ويعرفون له فضله، ويقدرونه قدره.
وكان كذلك في بلاد الخليج كلها، وهو عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وعضو المجلس العالمي الأعلى للمساجد، وكان أثيراً عند العلاَّمة الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة العام.
مواقف وطنية
عندما وقعت الواقعة، وغزا صدام الكويت، وكان هو بالخارج، وقد أمسى أغلب الكويتيين الذين كانوا يملكون الملايين ما بين عشية وضحاها بلا مصدر رزق، فقد تركوا أملاكهم في وطنهم، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق، وأصبح دينارهم الذي كان من أقوى العملات العالمية لا يكاد يساوي شيئاً في دنيا الصرف وسوق العملات.
وكان لدى أبي بدر فضل مال في الخارج، رصده لمعونة المحتاجين، وإيواء المشردين، والعمل على تنبيه الرأي العام العربي والإسلامي لمساندة قضية بلده، وكم سافر من بلد إلى آخر، لشرح القضية الكويتية، ويتصل بالإسلاميين في سائر الأقطار ليحشدهم لنصرة الكويت.
ولم يبال بما قد يسببه له هذا من أضرار على ممتلكاته في الكويت، من الجيش العربي الذي يملك ناصية كل شيء داخل الكويت.
وفعلاً تعرضت مجلاته ومتاجره ومعارضه ومخازنه للنهب المنظم، فحملت عشرات السيارات كل ما استطاعت من بضائع، والرجل يتاجر في كل شيء.
ولم يفتّ ذلك في عضده، ولم يوهن من عزمه، بل قابله بصبر جميل، وثقة بأن الله سيعوضه خيراً مما أخذ منه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنفال: 70).
وقد سمعت أبا بدر بعد حوالي سنة من انتهاء الغزو ودخول الكويت ودوران دولاب العمل من جديد: “لقد عوضني الله في هذه المدة اليسيرة عن كل ما خسرته في توازن اقتصادي”.
كان من يرى أبا بدر يدقق في البيع والشراء، ويحرص على ألا يضيِّع حقاً له، ربما يتوهمه رجلاً بخيلاً، وهو وهْم خاطئ، فقد كنا معاً في أحد الفنادق، وطلب لنا فطوراً مشتركاً، وكان من بين مواد الإفطار أحقاق من العسل، وقد بقي منها أربعة لم يمسسها أحد فقال: “نحن دفعنا ثمنها، فلا نتركها”!
ومع هذا هو الذي يبذل الملايين في سبيل الله، ويوقف الأوقاف الكبيرة لله.
مما أعرفه أنه كان حريصاً على إخراج الزكاة، لا يؤخرها عن وقتها، بل قد يعجّلها أحياناً لسد حاجات لا بد منها، وهو أمر مشروع، وكان يحسب زكاة العمارات التي يؤجرها، وفقاً لما رجحته في كتابي “فقه الزكاة” وهو 10%، أو العشر من غلتها بعد حسم النفقات، من الضرائب والصيانة ونحوها.
لقد مات أبو بدر ولم يمت، ورحل عن دنيانا ولم يرحل، فهو حي باق بآثاره ومآثره، وبالباقيات الصالحات من أعماله في مساندة المشروعات العلمية والفكرية والتعليمية والدعوية والاجتماعية والاقتصادية في مشرق العالم الإسلامي، ومغربه، وفي الأقليات الإسلامية حيثما كانت، فهذه الباقيات الصالحات تخلد في الناس ذكره، وتجعل له لسان صدق في الآخرين، وتضيف له أعماراً أخرى بعد عمره الرسمي المحدود، كما قال شوقي:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان!
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثان!
كان أبو بدر من الرجال الأفذاذ الذين يجود بهم القدر ما بين الحين والحين، ليسدوا الثغرات، ويؤدوا الأمانات، وينصروا رسالات الله، لذا أراه للحركة الإسلامية كأنما هو ابن عوف أو ابن عفان للدعوة المحمدية.
ولهذا لا نعجب إذا ذرفت عليه الدموع عبرات، وذهبت النفوس حسرات، وتوقدت القلوب جمرات.
لعمرك ما الرزية فقْد مال
ولا فرس يموت ولا بعير!
ولكن الرزية فقْد حر
يموت بموته خلق كثير!
وحسبك دلالة على حسن خاتمة هذا الرجل الذي لا نزكيه على الله، أنك لا تجد رجلاً من أهل الدين والصلاح إلا أثنى عليه خيراً، وألسنة الخلق أقلام الحق، والناس شهداء الله في الأرض.
روى الشيخان، عن أنس رضي الله عنه قال: مرُّوا بجنَازَةٍ فَأَثْنَوا عَلَيْهَا خَيراً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “وَجَبَتْ”، ثُمَّ مرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوا عَلَيْهَا شَرّاً، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “وَجبَتْ”، فَقَال عُمرُ بنُ الخَطَّاب: ما وَجَبَتْ؟ قَالَ: “هَذَا أَثْنَيتُمْ علَيْهِ خَيراً فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وهَذَا أَثْنَيتُم عَلَيْهِ شَرّاً فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أنتُم شُهَدَاءُ اللَّهِ في الأرضِ”.
وفي حديث آخر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين: أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى وتبارك: قد قبلت قولكم –أو قال: شهادتكم– وغفرت له ما لا تعلمون”.
فكيف بمن شهد له الألوف من عباد الله الأخيار؟
رحم الله أخانا وحبيبنا رجل الدعوة ورجل البر ورجل الإصلاح، رجل الكويت، ورجل الخليج، ورجل العرب، ورجل الإسلام.. وغفر الله له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبله في عباده الصالحين، وفي السابقين المقربين، وجزاه عن دينه ودعوته وأمته خير ما يجزي العاملين الذين أخلصوا دينهم لله، وأخلصهم الله لدينه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________________________________
العدد (1719)، ص12-16 – 15 ربيع الآخر 1427ه – 13/5/2006م