بقلم: العلاَّمة د. يوسف القرضاوي
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (إبراهيم).
لا تستطيع –مهما أوتيت من بيان– أن تصور الكلمة الطيبة وأثرها بأبلغ ولا أروع مما صورها به الكتاب المعجز؛ القرآن الكريم.
إنها أشبه بشجرة طيبة المنبت، ثابتة الأصول، باسقة الفروع، مباركة الثمار، دائمة الإدرار (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)، ولا غرو إن صح في الحديث: “الكلمة الطيبة صدقة”.
وهكذا كانت مجلة “المجتمع” منذ نشأتها وتأسيسها، فقد أسست على تقوى من الله ورضوانه، ولم تؤسس على شفا جرف هار، فينهار به في نار جهنم، التزمت مجلة “المجتمع” منذ مولدها بـ “الكلمة الطيبة”؛ لا تعدوها ولا تتخلى عنها ولا تكتمها، ورفضت “الكلمة الخبيثة”؛ لا تتبناها، ولا تدافع عنها، بل تقاومها وتخاصم أهلها، وإن كثروا؛ (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) (المائدة: 100).
وإنما تتجسد الكلمة الطيبة في الصدق إذا كانت خبراً، والاستقامة إذا كانت رأياً، والمصارحة إذا كانت نصيحة، وأن يكون هدفها إحقاق الحق لا ترويج الباطل، وأن يكون شعارها البناء لا الهدم، وأن يكون أسلوبها الرفق لا العنف، والتسامح لا التعصب.
وهذا التوجه قد يكلف كثيراً من المشاق والمتاعب، ولكن صاحب الرسالة لا يبالي ما يصيبه في سبيل ما يؤمن به، ولا يكتم شهادة يعلمها، والله تعالى يقول: (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283).
ولهذا، لم تبالِ “المجتمع” بما ابتليت به في بعض الأحيان من مصادرات لبعض أعدادها، أو توقيفها في بعض الأحيان، أو منعها بإطلاق من بعض الأقطار، فهذه ضريبة التزامها بالحق، وإصرارها عليه، وإيمانها بأن تكون “لسان صدق” معبراً عن “الإسلام” في صحوته ودعوته وحركته وهموم أمته في عصر كثر فيه المهاجمون على الإسلام من مشرق ومغرب ومن شمال وجنوب سافرين أحياناً، ومقنعين أحياناً، من داخل أرض الإسلام ومن خارجها.
كان على “المجتمع” أن تخوض المعركة الشرسة بشجاعة وإيمان ضد أعداء كثيري العدد، أقوياء العدة، مسلحين بالعلم والمال والدهاء، مسنودين بالخونة من الداخل، والمرتزقة من الخارج، ولكن مجلتنا الحبيبة لم ترهَب هؤلاء الأعداء، ولم ترعها كثرتهم ولا قوتهم ولا مكرهم؛ لأنها تدافع عن “الحق”، والحق لا يُغلب، وتتبنى “الحقيقة”، والحقيقة لا تضيع، وإذا كان للباطل جولة، فإن للحق دولة، وجولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وهذه سُنة الله؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: 17).
خمسة وعشرون عاماً من عمر “المجتمع”، حافلة بالأحداث عامرة بالوقائع، خيرها وشرها ومرها، خاضت بها لججاً عميقة ولم تغرق، ودخلت فيها معارك عنيفة ولم تُهزم، وصارعت قوى جبارة ولم يخرسها الخوف أو بذلها الطمع، بل وقفت بحمد الله شامخة كالطود، ساطعة كالنجم، تقول الحق، وتهدي السبيل، وترفع المشاعل، وترسل النذر، وتطلق الشهب لرجم الشياطين، وستظل المجلة، إن شاء الله تعالى، على العهد بها، لا تحيد ولا ترتد ولا تتوقف، فقد بدأت لله تعالى، وما كان لله دام واتصل؛ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف: 58).
لقد صدرت “المجتمع” عن جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت العريقة في توجهها الإسلامي الأصيل الشامل الذي ينظر إلى الإسلام باعتباره عقيدة روحها التوحيد، وعبادة روحها الإخلاص
، وأخلاقاً روحها الخير، وشريعة روحها العدل، وحياة روحها التكامل، ورابطة روحها الإخاء، وحضارة روحها التوازن.
والمجلة في واقعها لم تكن معبرة عن الجمعية وحدها، ولا معبرة عن الكويت وحدها، بل هي معبرة عن الأمة الإسلامية الكبرى، من المحيط إلى المحيط، وعن الإسلام كله؛ فكرة وحركة وأمة.
فمن حق جمعية الإصلاح ومن حق الكويت كلها أن تباهي بهذه المجلة، وأن تفخر بها وتعتز، ومن حقنا جميعاً أن نهنئها بما كسبته من رصيد، وما حققته من إنجاز، سائلين الله تعالى الذي جعل يومها خيراً من أمسها، أن يجعل غدها خيراً من يومها، وأن يجنبها زلة الفكر والعلم، وأن يهديها سواء الصراط، وأن يرزق العاملين فيها والمشرفين عليها صدق القول، وصدق النية، اللهم آمين.
- العدد (1142)، ص25 – بتاريخ: 20 شوال 1415ه – 21/3/1995م.