د. يوسف القرضاوي في أحدث دراسة عن: الثقافة العربية والإسلامية بين الأصالة والمعاصرة (2) ([1])
مكونات الثقافة العربية
بقلم: د. يوسف القرضاوي
اعتقد أن مكونات الثقافة – لدى كل أمة واحدة، وأهمها الدين واللغة، والقيم، والمفاهيم السائدة، والمتوارثة. وبالنسبة لنا – نحن العرب – نجد أن مكونات ثقافتنا هي: الإسلام والعربية، والقيم والمفاهيم المتوارثة والمتراكمة على مدار التاريخ.
وسأكتفي بالحديث عن الاثنين الأولين: الإسلام والعربية.
1 – الاسلام
إن الدين هو المكون الأول لثقافة الأمة، أي أمة، فهو الذي يخط مجراه في تفكيرها وضميرها وأغوار وجدانها، وهو الذي يحدد لها فلسفتها الأساسية عن سر الحياة وغاية الوجود، ويجيبها عن الأسئلة الخالدة التي فرضت نفسها على الإنسان في كل زمان ومكان من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين اذهب؟ ولماذا أحيا؟ ولماذا أموت؟
الدين هو الذي يجعل للإنسان هدفاً ورسالة، ويجعل للحياة معنى ومذاقاً، ويصل الوجود الإنساني بالأزل والأبد حين يربطه بالله تعالى خالقه، وبالخلود في الدار الآخرة التي هي الحيوان (أي الحياة) لو كانوا يعلمون، والإسلام – خاصة – له تأثيره العميق والشامل في ثقافة أمتنا العربية والإسلامية، عن طريق عقائده الايمانية، وشعائره التعبدية، وقيمه الخلقية، وأحكامه التشريعية وآدابه العملية ومفاهيمه النظرية.
فهو دين يتغلغل في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، ويؤثر في الفكر والشعور والإرادة ويوجه العقل والضمير والسلوك، ويصبغ الحياة كلها بصبغة متميزة تتجلى في توجهها الرباني ونزوعها الإنساني، وانضباطها الأخلاقي وتحركها الإيجابي، وتوازنها القيمي.
المسلم يأكل فيسمى الله تعالى، ويشبع فيحمد الله، وينام على ذكر الله ويستيقظ على ذكر الله وتجيئه النعمة فيقول: الحمد لله وتصيبه المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكل حياته معجونة بذكر الله تعالى، والثناء عليه. فـ(الله) تعالى حي في وجدانه، حاضر على لسانه.
ومن قريب حضرت مؤتمراً للمسلمين في إيطاليا، ولقيت مسلماً إيطالياً فعرفت عن سبب إسلامه أنه وجد مسلماً مغربياً يعمل بائعاً متجولاً في البرد الشديد، فسأله: ما الذي يوقفك في البرد الشديد؟ قال: اطلب رزق الله، قال: وهل تكسب ما يكفيك؟ قال: الحمد لله، ما أكسبه يكفيني بعضه، وأرسل الباقي إلى أبوي وإخوتي في المغرب قال: وهل أنت مسؤول عنهم؟ قال: نعم. رضا الله في رضا الوالدين وصلة الرحم تطيل العمر؟ قال الإيطالي: يعني أنت راض عن حياتك هذه؟ قال: رضا ولله الحمد ربنا يديم نعمته علي قال الإيطالي: ومن أين تعلمت هذا؟ قال المغربي: ديننا علمنا هذا “ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس” ([2]).
قال الإيطالي: فكيف لي أن أعرف دينكم؟ قال المغربي: أدلك على المسجد لتقابل إمامه وهو يشرح لك، فأنا رجل أمي. وذهب الإيطالي مع المغربي إلى المسجد، ولم يكن ممن يحافظ على الصلاة أو يرتاد المسجد.. وما هي إلا أيام حتى دخل الرجل في الإسلام، وحسن إسلامه وأصبح من الملتزمين الغيورين الداعين إلى الإسلام ولا يستطيع أحد يعيش في المجتمع الإسلامي أن ينكر تأثير الإسلام على ثقافته، أياً كان قدره من التدين لأن اللغة نفسها مشحونة بمعاني الدين والأمثال العامة المنتشرة بين الناس ممزوجة بالدين والأفكار والمشاعر الموجهة للسلوك متأثرة بالدين، أعني بالإسلام الذي هو الدين السائد والغالب حتى الملاحدة والشكاك الذين ظهروا في تاريخ الأمة – على ندرتهم – لا تخطئ تأثير الإسلام على ثقافتهم فالإسلام – بتصوراته وقيمه وأفكاره ومشاعره وآدابه – قوة غالبة تؤثر على الفكر والشعور والإرادة من الداخل ومن الخارج، شعر بذلك المرء أو لم يشعر.
وقد أكد الكثيرون ممن عايشوا المسلمين قليلاً أو كثيراً أن الدين هو المؤثر الأول في حياتهم وسلوكهم، وإن كانوا من العصاة والمنحرفين عن سواء السبيل.
يقول المؤرخ الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشداً لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرناء أجل قد تجد بين المسلمين عدداً قليلاً من الزنادقة والأخلياء ولكنك لن ترى من يجرؤ منهم على انتهاك حرمة الإسلام في عدم الامتثال لتعاليمه الأساسية كالصلاة في المساجد وصوم رمضان الذي يراعي جميع المسلمين أحكامه بدقة مع ما في هذه الأحكام من صرامة لا تجد مثلها في صوم الأربعين الذي يقوم به النصارى، كما شاهدت ذلك في جميع الأقطار الإسلامية التي زرتها في آسيا وأفريقيا.
ومن ذلك أتيح لي أن أركب سفينة نيلية كان فيها أفراد عصابة عربية مقرنين في الأصفاد ومتهمين بأنواع الجرائم، فقضيت العجب حين رأيتهم وهم الذين خرقوا حرمة جميع القوانين الاجتماعية مستخفين بأقسى العقوبات لم يجرؤوا على انتهاك تعاليم النبي، وحين شاهدتهم يرفعون تلك الأصفاد عنهم وقت الصلاة ليسجدوا لله القهار ويعبدوه.
وعلى من يرغب في فهم حقيقة أم الشرق -التي لم يدرك الأوربيون أمرها إلا قليلاً- أن يتمثل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها والدين -ذي التأثير الضئيل فينا- نفوذ عظيم فيهم، وبالدين يؤثر في نفوسهم، ولولا الدين ما حرك ساكن المصريين منذ الثورة التي خرجت مصر بالدماء (يعني ثورة (۱۹۱۹) إلى أن يقول: إن الرجل الذي يخاطب العرب باسم الله يطاع لا محالة، ما علموا أنه يتكلم باسم الله حقا.
فعلى الراصد المؤمن أو الملحد أن يحترم هذا الإيمان العميق الذي استطاع العرب أن يفتحوا العالم به فيما مضى، وهم اليوم يصبرون به على قسوة المصير ([3]).
بل أقول: إن الإسلام يعتبر مكوناً مهما لثقافة غير المسلم الذي يعيش في المجتمع المسلم، وهو ينضح على تفكيره ووجدانه وعلاقاته، شعر أو لم يشعر أحب أو كره.
وهذا ما جعلني أقول للدكتور لويس عوض عندما زار الدوحة منذ سنوات: أن وجودك في المجتمع المسلم يقتضي أن تكون مسلماً بالثقافة والحضارة، وإن لم تكن مسلما بحكم العقيدة والديانة ([4])
وقد رأينا من إخواننا النصارى العرب الذين لا يجبنون عن التعبير بصراحة عن أثر الإسلام فيهم وفي ثقافتهم من تركوا شهادات عادلة على هذه الحقيقة التي نتحدث عنها، وذلك مثل الشاعر القروي، ومثل الأستاذ فارس الخوري رئيس وزراء سورية ([5])، ومثل الزعيم السياسي مكرم عبيد في مصر الذي قال: أنا نصراني ديناً، مسلم وطناً.
ويحق للآخرين أن يقول كل منهم: أنا نصراني ديانة، مسلم ثقافة وحضارة.
وصلة الدين بالثقافة ليست خاصة بالثقافة الإسلامية، فكل الثقافات مدينة للأديان في تكوينها وتوجيهها، سواء كان هذا الدين سماوياً أم وضعياً، حقاً أم باطلاً، كما هو واضح في ثقافات الشرق والغرب. والثقافة الغربية على سبيل المثال، هي بنت الديانة المسيحية، بعقائدها وتصوراتها، ومواريثها وتقاليدها المختلفة.
وهذا ما سجله الدارسون المتعمقون من الغربيين.
يقول تس. اليوت في تأثير العقيدة المسيحية في الثقافة والحضارة الأوروبية (في المسيحية نمت فنوننا، وفي المسيحية تأصلت – إلى عهد قريب – قوانين أوروبا. وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي وقد لا يؤمن فرد أوروبي بأن العقيدة المسيحية صحيحة، ولكن كل ما يقوله ويفعله يأتيه من تراثه في الثقافة المسيحية، ويعتمد في معناه على تلك الثقافة).
ويقول: (ما كان يمكن أن تخرج فولتير أو نیتشة إلا ثقافة مسيحية. وما أظن أن ثقافة أوروبا يمكن أن تبقى حية إذا اختفى الإيمان المسيحي اختفاء تاماً ولا يرجع اقتناعي بذلك إلى كوني مسيحياً فحسب، بل إنني مقتنع به أيضاً بوصفي دارساً لعلم الإحياء الاجتماعي.
إذا ذهبت المسيحية فستذهب كل ثقافتنا وعندئذ يكون عليك أن تبدأ البداية المؤلمة من جديد، ولن تستطيع أن تلبس ثقافة جديدة جاهزة. يجب أن تنتظر حتى ينمو العشب ليغدو الضأن ليعطي الصوف الذي سيصنع منه رداؤك الجديد يجب أن تمر بقرون كثيرة من الهمجية.
ولن نعيش إذن لنرى الثقافة الجديدة لا نحن ولا أحفاد أحفادنا، ولو عشنا لما سعد بها واحد منا) ([6]).
ومثل ذلك يقال في تأثير الهندوسية في ثقافة الهند، والبوذية في ثقافة الصين وكوريا وغيرهما.
ويمكننا أن نؤكد أنه لا ثقافة بغير دين أياً كان هذا الدين.
حتى الذين جحدوا الدين وحاربوه نظرياً وعملياً، كالماركسيين الذين طاردوه ولاحقوه حيث كان وشردوا رجاله، وأغلقوا معابده وحرقوا كتبه، لم يسعهم إلا أن يصنعوا للناس دينا جديداً، يقوم مقام الدين القديم إلهه المادة ونبيه ماركس وجنته الشيوعية الموعودة، وشيطانه الرأسمالية.. إلى آخر ما نعرف من مبادئ وطقوس لهذه الديانة، التي سمى بعضهم أمثالها: أدياناً بغير وحي.
٢ – اللغة العربية
واللغة – أي لغة – هي المكون الثاني للثقافة فهي وعاء العلوم والمعارف جميعاً، وأداة الأفهام، والتعبير العلمي والفني والعادي، ووسيلة التأثير في العقل والشعور بأدبها ونثرها وشعرها وحكمها وأمثالها وقصصها وأساطيرها، وسائر ألوانها وأدواتها الفنية.
والله تعالى خلق الإنسان علمه البيان، سواء كان بياناً نطقياً أم بياناً خطياً، ليفصح عما في ضميره بلسان مبین.
وجعل من آياته اختلاف الألسنة، كاختلاف الألوان، وكان لكل لسان -أي كل لغة- خصائصه التي تظهر في ثقافته، وتؤثر في تفكيره ووجدانه
وسلوكه.
وللعربية -خاصة- تأثير بالغ في ثقافتنا نحن العرب لما انفردت به هذه اللغة من مميزات لم تتوافر لغيرها.
وحسبها أن الله أنزل بها كتابه الخالد القرآن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) “يوسف:2″، (نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ. عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) “الشعراء: 195:193”
وإن لغة اختارها الله لينزل بها خاتم كتبه وينطق بها خاتم رسله، ويجعلها لغة العبادة لخاتمة رسالاته الجديرة أن تكون سيدة لغات العالمين.
لقد بلغت العربية الذروة حين نزل بها هذا النص الإلهي الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، ولا يوجد في أي لغة من لغات الأرض نص إلهى معصوم، غير محرف ولا مبدل إلا العربية التي شرفها الله بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بعد أن حرفت الكتب السماوية جميعا بالأدلة القاطعة التي بينها العلماء قديماً وحديثاً.
لقد ضمنت العربية الخلود حين نزل بها القرآن الذي تكفل الله تعالى بحفظه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) “الحجر:9″، وهذا ما جعل لهذه اللغة العزيزة لوناً من القداسة عند العرب المسلمين، بل عند المسلمين غير العرب الذين يجتهدون في تعلمها ما استطاعوا، ويتقربون إلى الله بنشرها وتعليمها.
وقد حدث اتصال بين اللغة والدين -وبعبارة أخرى بين الإسلام والعربية- حتى امتزج أحدهما بالآخر امتزاج الروح بالجسد.
فمن قرأ متن اللغة وشواهدها، أو نحوها أو صرفها، وبلاغتها، ورأى الشواهد والأمثلة فيها وجدها ممزوجة بالقرآن مزجاً، وكذلك من درس
شعرها ونثرها لمس ذلك لمسا.
ومن هنا نجد محاولات بعضهم اليوم تفريغ اللغة من هذه الظواهر الأصيلة فيها، وعزلها عن القرآن والسنة، كما ترى ذلك واضحاً في المعجم المعروف باسم (المنجد) ([7])، الذي تعمد حذف كل استشهاد بالقرآن أو الحديث في أي مادة لغوية.
ولهذا نجد كل من يحارب الإسلام يحارب اللغة العربية معه أن لا عربية بغير قرآن، ولا قرآن بغير بيانه من سنة رسوله الكريم، الذي أمر أن يبين للناس ما نزل إليهم.
ولا غرو أن كانت الدعوة إلى العامية بذرة بذرها أعداء الأمة من المستشرقين والمبشرين والأجانب، ليعزلوها عن الفصحى، لغة القرآن والسنة والتراث الإسلامي كله كما تبين ذلك بالوثائق وأكدته الدراسات الأكاديمية (١١).
وكان من أكبر هم المستعمرين الصليبيين وفروخهم في كل بلد عربي! إضعاف الفصحى وإشاعة العامية، وإعلاء اللغة الأجنبية على اللغة
القومية، كما فعل (دنلوب) في نظام التعليم بمصر ([8]).
وكان أكبر همهم في البلدان الإسلامية التي تكتب لغتها بالحرف العربي إلغاء الحرف العربي من الكتابة، وإحلال الحرف اللاتيني محله، كما فعلوا ذلك في تركيا وماليزيا وبعض البلاد الافريقية.
وكان هم الحكم العلماني في تركيا محاولة تفريغ التركية من الكلمات العربية التي تشغل منها حيزاً كبيراً لتوضع موضعها كلمات لاتينية، بدعوى أنها كلمات (عالمية)!
وما ذاك إلا لأن الكلمات العربية لها تأثيرها وإيجازها في نفس كل مسلم، كما أنها تذكر أبداً بالقرآن والإسلام وتؤكد دائماً روابط الإخوة
الإسلامية.
[1] – العدد (1085)، ص45:44 – بتاريخ: 13 شعبان 1414هـ – 25 يناير 1994م.
[2] – جزء من حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة.
[3] – من كتاب حضارة العرب، لغوستاف لوبون – تعريب عادل زعيتر ص ٤١٧
[4] – انظر المجلد الثالث من منشورات نادي الجسرة في قطر (قضايا ثقافية) ص ٤٧
[5] – انظر ما نقلناه من رأيه بصلاحية الإسلام وضرورة تحكيم شريعته في كتابنا: شريعة الإسلام ص ٩٦ – ٩٧
[6] – ملاحظات نحو تعريف الثقافة لأليوت ص ١٤٥ ترجمة د. شكري عياد المؤسسة المصرية العامة.
[7] – تصنيف الأب اليسوعي لويس معلوف
[8] – انظر كتاب (تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر) للدكتورة نفوسة زكريا، وما كتبه الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه (أباطيل وأسمار) عن هذه القضية ودعوة سلامة موسى ولويس عوض وأمثالهما إلى العامية ص ١٥١ – ١٩٤