ولا بد –لكي نفهم ثقافتنا بحق– أن نعرف خصائصها العامة، التي ميزتها عن غيرها من الثقافات، وهذا يحتاج إلى بحث مفرد، ولكننا نشير هنا إلى أهمها تبصرة وتذكرة.
فمن خصائص هذه الثقافة:
الربانية:
فهي ثقافة معجونة بالجانب الإلهي، قد امتزجت فكرة الإيمان عامة، والتوحيد خاصة، بجوانبها كلها، وجرت فيها مجرى الدم في الشعيرات، في شعرها ونثرها، في أدبها وعلمها وفلسفتها، في كتب اللغة وكتب الدين، وكتب العلم على اختلافها، فيما تزين به المساجد، وفيما تجمل به المنازل.
قد يوجد فيها بعض الملاحدة أو الشُّكّاك، ولكنهم يمثلون الشذوذ الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها، ومع هذا تجد نضح هذه الثقافة الربانية عليهم، أحبوا أو كرهوا.
الأخلاقية:
وللعنصر الأخلاقي فيها مكان رحيب، وأثر عميق، برز ذلك العنصر حتى في الجاهلية ذاتها، كما نلمسه في شعر حاتم الطائي، وعروة بن الورد، وعنترة العبسي.. وغيرهم.
ثم جاء الإسلام، فعمَّق هذا العنصر أيما تعميق، ووسعه أبلغ توسعة، وربط الأخلاق بأهداف أرحب وأرقى، وحوافز أنبل وأزكى، ووصلها بفكرة الإلزام والجزاء، جزاء الدنيا وجزاء الآخرة، وحررها من غلو الجاهلية وغلوائها، ورفع الأخلاق مكاناً علياً حين جعلها غاية الرسالة؛ “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وندد بالعلم الذي لا يثمر خلقاً ولا سلوكاً حسناً.
وفصل آداباً للمعلم والمتعلم، والقارئ والسامع، والباحث والمناظر، بل آداباً لكل شيء في الحياة، من أدب المائدة إلى بناء الدولة.
واعتبرت الأخلاق ثمة الاعتقاد الصحيح والتعبد الخالص، وإلا كان فساد الخلق دليل فساد الإيمان، أو فساد العبادة.
ولا تعترف هذه الثقافة بتجزئة الأخلاق: أخلاق لمعاملة المسلمين، وأخرى لغير المسلمين، فالخير خير للجميع، والشر شر على الجميع، والحلال حلال للكل، والحرام حرام على الكل، لا كما جاء في توراة اليهود.
كما لا تعترف هذه الثقافة بذلك المبدأ الخطر الشرير: “إن الغاية تبرر الوسيلة”، بل هي لا تؤمن إلا بالوسيلة النظيفة للغاية الشريفة، ولا تصل إلى الحق بالخوض في الباطل، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
ومن ثم لا انفصال في ثقافة الإسلام، بين الأخلاق والعلم، ولا بين الأخلاق والاقتصاد، ولا بين الأخلاق والسياسة، ولا بين الأخلاق والحرب.
الإنسانية:
ومن خصائص الإنسانية، فلحمتها وسدادها: احترام الإنسان ورعاية كرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، فهي تقوم على اعتبار أن الإنسان مخلوق مكرم من ربه؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وأن الله جعله في الأرض خليفة، وأنه تعالى سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه.
وهي تقوم على تكريم الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن جنسه، أو لونه أو لغته أو موطنه، أو طبقته، بل عن دينه نفسه، فهو مكرم بإنسانيته قبل ديانته، ومن المواقف الرائعة ما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قد مرت عليه جنازة ميت وهو جالس، فقام لها واقفاً، فقيل له: إنها جنازة يهودي؟ فقال: “أليست نفساً؟”، بلى، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان.
العالمية:
وما دامت ثقافة لكل إنسان، فلا غرو أن تكون ثقافة عالمية المنزع، والوجهة، وقد عملت على تقريب الفوارق بين بني الإنسان، تلك التي فرقت البشر قديماً وحديثاً، ولهذا اشترك فيها عرب وعجم، بيض وسود، أغنياء وفقراء، ملوك وعامة، مسلمون ونصارى ويهود ومجوس، ولا تنافي بين انتماء هذه الثقافة إلى العروبة والإسلام من ناحية، ووصفها بالعالمية من ناحية أخرى، فهي –كما قلنا– عالمية النزعة والوجهة، مفتوحة لكل الجماعات البشرية، غير مغلقة على نفسها، ولا متعصبة ضد غيرها، مثل الثقافة اليهودية المنغلقة، التي تقوم على تمجيد جنس خاص، وشعب معين، حتى وصفت الله سبحانه وتعالى بأنه “رب إسرائيل”، واعتبرت الشعب “الإسرائيلي” –كجنس- شعب الله المختار.
أما ثقافتنا فهي وإن كتبت بالعربية، وانطلقت من الإسلام، فالإسلام نفسه عالمي الرسالة، لا “يا أيها العرب”، ويدعو إلى الله “رب العالمين” لا رب المسلمين ولا رب العرب وحدهم، ويعلن أن دعوته عامة لا خاصة؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
التسامح:
ومن دلالة هذه العالمية وجود خصيصة التسامح، برغم ظهور العنصر الديني فيها وغلبته عليها، ولكن الدين الذي قامت عليه، يؤكد الإيمان بحقيقتين أساسيتين على غاية من الأهمية، لتأثيرهما في فكر الإنسان وسلوكه، وعلاقاته مع الآخرين المخالفين، وهما:
الأولى: أن اختلاف البشر في الأديان وغيرها واقع بمشيئة الله تعالى المرتبطة بحكمته، ولا يملك أحد أن يرد مشيئة الله ويغير سُننه في الكون، يقول تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود).
الثانية:أن حسابهم على ما ضلوا فيه أو انحرفوا، إنما هو إلى الله يوم القيامة، وليس إلى الناس اليوم، وفي هذا يقول الله لرسوله في شأن المخالفين: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى: 15).
ولهذا وسعت هذه الثقافة وهذه الحضارة غير المسلمين، وفسحت لهم مكاناً في مجتمعاتها، وأعطتهم ذمة الله وذمة رسوله، وذمة جماعة المسلمين، على أن يكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، إلا ما اقتضاه اختلاف الديانة، وبقي هؤلاء على عقائدهم وعبادتهم وشعائرهم، وبقيت لهم معابدهم ومؤسساتهم، ولم يُجبروا على شيء يمنعهم دينهم لهم كالخمر والخنزير، بل شاركوا في بناء الحضارة الإسلامية، وكان لهم في أحيان كثيرة مناصب وزارية وإدارية ومالية، على خلاف ما تعانيه الأقليات والجاليات المسلمة في كثير من المجتمعات الغربية اليوم، التي أقامت الدنيا وأقعدتها من أجل طالبات مسلمات يلتزمن الحجاب الذي فرضه عليهن الإسلام، وكذلك من أجل فتح كلية أوروبية خاصة للدراسات الإسلامية لتخريج أئمة ووعاظ للجاليات الإسلامية الكبيرة في داخل أوروبا شرقها وغربها.
التنوع: ومن خصائص هذه الثقافة “التنوع”، فهي ليست مجرد ثقافة دينية (لاهوتية) كما يتصور البعض، إنها ثقافة واسعة متنوعة، فيها الدين بفروعه المتعددة، واللغة والأدب والفلسفة، والعلوم الطبيعية، والرياضة، والعلوم الإنسانية، والفنون المختلفة، فيها فقه أبي حنيفة، وأصول الشافعي، وكلام الأشعري، وتفسير الطبري، ورواية البخاري، وأدب الجاحظ، ومعجم الخليل، ونحو سيبويه، وبلاغة عبدالقاهر، وطب ابن سينا، وشعر المتنبي، ومقامات الحريري، وبصريات ابن الهيثم، ورياضيات البيروني، وتصوف الغزالي، وفلسفة ابن رشد، وتحليل ابن خلدون، وخط ابن مقلة، وألحان الموصلي.
فيها ابن طفيل من الأندلس، وابن أبي زيد من تونس، وابن حجر من مصر، وابن الوزير من اليمن، والشيرازي من إيران، والزمخشري من خوارزم، والدهلوي من الهند، وجلال الدين الرومي من تركيا.
فيها صلاح أهل السلوك، وخلاعة أهل البطالة.
فيها “نهج البلاغة”، و”ألف ليلة وليلة”.
فيها زهديات أبي العتاهية، وخمريات أبي نواس.
فيها مرئيات الخنساء، ومجون ابن أبي ربيعة.
فيها سلفية ابن تيمية، وصوفية ابن عربي.
فيها ظاهرية ابن حزم، ومقاصدية الشاطبي.
فيها عقلانية الفلاسفة، والتزام الفقهاء.
فيها اجتهاد المجددين، وتزمت المقلدين.
فيها الكتب المقروءة التي امتلأت بها المكتبات والصور المشهورة التي ازدانت بها الجوامع والمدارس والقصور (الأموي في دمشق، الحمراء في الأندلس، والأزهر في مصر، والسلطان أحمد في إسطنبول، وتاج محل في الهندي).
إنه التنوع الشامل أو الشمول المتنوع.
الوسطية: يكمل خصيصة “التنوع” خصيصة أخرى هي “الوسطية” أو “التوازن”، فهذه الثقافة تمثل المنهج الوسط للأمة الوسط بين أفراط الأمم المختلفة وتفريطها.
ومع أن الطرفين قد يوجد داخلها، فإن الصبغة العامة لها، والطابع الغالب عليها هو الوسطية، التوازنية، المستمدة من وسطية الإسلام، ووسطية أمته؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143).
تجد هذا واضحاً في الوسطية المتوازنة بين العقل والوحي، بين العلم والإيمان، بين المادة والروح، بين الحقوق والواجبات، بين الفردية والجماعة، بين الإلهام والالتزام، بين النص والاجتهاد، بين المثال والواقع، بين استلهام الماضي والتطلع إلى المستقبل.
التكامل: ومن خصائص هذه الثقافة أيضاً “التكامل”؛ التكامل بين بعضها بعضاً، فالثقافة اللغوية تخدم الثقافة الدينية، وهذه تغذي الثقافة الإنسانية، وكل هذه تستفيد من الثقافة العلمية.
ومثل ذلك تكاملها مع الثقافات الأخرى، فهي لا تدعي أنها تنشئ كل شيء من عدم، وتبدأ رحلة الثقافة من الصفر، بل أعلنت نصوصها المقدسة أنها جاءت متممة لما كان قبلها لا مبتكرة، مكملة للبناء الذي بدأه رسل الله من قبل، مصححة للمسيرة التي داخلها بعض التحريف أو الانحراف، ولهذا قال رسولها عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فهو متمم لا مبتدئ، ومكارم الأخلاق لم تقطع جذورها من الدنيا، بل هي موجودة، وإن كان فيها قصور وتناقص، ومهمته أن يتممها ويكملها.
وموقف الثقافة الإسلامية مع الثقافات الأخرى كموقف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع النبوات الأخرى، والذي عبر عنه الحديث الصحيح: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: ألا وضعت هذه اللبنة؟! فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين”.
ومقتضى هذا التكامل الذي اتصفت به الثقافة الإسلامية، أنها لا تجد مانعاً شرعياً يمنعها من اقتباس الحكمة، والتماس العلم النافع، والعمل الصالح عند غيرها، ولو كانوا خصومها، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه: “الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها هو أحق بها”، والحديث ضعيف من حيث سنده، ولكن معناه صحيح، بإجماع علماء الأمة، وهو ما استقر عليه الفقه والعمل.
وقد طلب الرسول الكريم من أسرى المشركين الذين يحسنون الكتابة، ولم يتيسر لهم دفع الفدية في غزوة “بدر”، أن يفدوا أنفسهم بتعليم كل واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة حتى يحذقوا، فتعلم منهم عدد كان منهم زيد بن ثابت، كاتب الوحي، وأحد علماء الصحابة رضي الله عنهم.
الفصل الثاني: بين الأصالة والمعاصرة
السؤال الكبير الذي طرحه نفسه علينا منذ أوائل نهضتنا، واستفاقتنا على تفوق الغرب الذي طالما أخذ عنا، وتتلمذ علينا، وكانت جامعاتنا موئلاً لطلابه، وكانت كتبنا مراجع لدارسيه، ثم ها هو يتغلب علينا عسكرياً، ويتحكم فينا سياسياً، ويتفوق علينا حضارياً.. هذا السؤال الكبير هو: كيف تكون العلاقة بيننا وبين هذا الوافد الجديد؟ وبعبارة أخرى: كيف نوازن بين قديمنا وحديثهم؟ أو بين تراثنا الأصيل ومُعاصرهم الدخيل؟
أنستطيع أن نكون أصلاء ومعاصرين في الوقت ذاته؟ أي نحقق ذاتنا، ونعيش عصرنا؟ أم لا بد لنا أن نختار بين أمرين؛ إما أن نكون أصلاء ونضحي بالمعاصرة، أو نكون معاصرين ونضحي بالأصالة؟
بتعبير آخر: هل العلاقة بين التراث القديم والوافد الحديث، أو بين الأصالة والمعاصرة، علاقة التضاد والتناقض؟ فلا أمل في الجمع بينهما، أو هي علاقة التنوع والتكامل وهنا يمكن الجمع بينهما؟
السؤال خطير، والجواب مهم، خصوصاً في هذه المرحلة التي تسعى فيها أمتنا لتحقيق ذاتها، بعد أن اكتشفت ذاتها، التي غابت أو غيبت عنها زمناً.
وقد أجاب عنه أناس بافتراض التناقض بين الأمرين، فاختار فريق التراث والأصالة، وعاشوا غرباء عن العالم والزمان.
واختار آخرون العصر والحداثة، وعاشوا غرباء عن الأهل والمكان.
وبقي آخرون مترددين بين أولئك وهؤلاء.
ولكن الموقف الصحيح هو الذي يتخذ بعد الدراسة المتأنية لكل من الأمرين المعروضين، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتسرع في مثل هذه المواقف الفكرية قد يوقع صاحبه في هوة لا يخرج منها إلا ما شاء الله.
وقد عرض علينا أحد المفكرين المرموقين من العرب كيف سقط في هذا الخطأ الشنيع من قديم، حين تسرع في الجواب بغير علم عن هذا السؤال، إنه د. زكي نجيب محمود، الذي يحكي لنا ذلك في كتابه “تجديد الفكر العربي”، حين واجه السؤال عن طريق الفكر العربي المعاصر، يضمن له أن يكون عربياً حقاً (أي أصيلاً) ومعاصراً حقاً:
“إذ قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة تناقضاً أو ما يشبه التناقض بين الحدين؛ لأنه إذا كان عربياً صميماً، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين حتى لا يدع مجالاً لتجديد –وإن من أبناء الأمة العربية اليوم من قد غاص هذا الغوص الذي لم يبق لهم من عصرهم ذرة هواء يتنفسونها– وأما إذا كان معاصراً صميماً، كان محتوماً عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين.
نعم، قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض، ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركب واحد، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نار، فهل بين الطرفين مثل هذا التعارض حقاً؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما؟ ذلك هو السؤال”.
يقول د. زكي نجيب محمود: “ولقد تعرضت للسؤال منذ أمد بعيد، ولكني كنت إزاءه من المتعجلين الذين يسارعون بجواب قبل أن يفحصوه ويمحصوه ليزيلوا منه ما يتناقض من عناصره، فبدأ بتعصب شديد لإجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً، عشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة، ووجهة نظر إلى الإنسان والعالم، بل تمنيت عندئذ أن نأكل كما يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون! على ظن مني أن الحضارة وحدة لا تتجزأ، فإما أن نقبلها من أصحابها –وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع– وإما أن نرفضها، وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً، كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال، بدأت بتعصب شديد لهذه الإجابة السهلة، وربما كان دافعي إليها هو إلمامي بشيء من ثقافة أوروبا وأمريكا، وجهلي بالتراث العربي جهلاً كاد أن يكون تاماً، والناس –ما قيل بحق– أعداء ما جهلوا.
ثم تغيرت وقفتي مع تطور الحركة القومية، فما دام عدونا الألد هو نفسه صاحب الحضارة التي توصف بأنها معاصرة، فلا مناص من نبذه ونبذها معاً، وأخذت أنظر نظرة التعاطف مع الداعين إلى طابع ثقافي عربي خالص، يحفظ لنا سماتنا ويرد عنا ما عساه أن يجرفنا في تياره، فإذا نحن خبر من أخبار التاريخ، مضى زمانه ولم يبق منه إلا ذكراه، لكنني حين أخذت أتعاطف مع هذه النظرة العربية الخالصة، كنت إزاءها بلا حول، فهذا مجال لم يكن لي فيه نصيب يذكر، فلا أنا قد أتيحت لي أيام الدرس فرصة كافية للإلمام بقسط موفور من تلك الثقافة العربية الخالصة –اللهم إلا النذر اليسير الذي كان يتلقاه التلميذ في المدارس المدنية– ولا أن أستطيع أن أجد الفراغ لأتوفر على الدرس من جديد.
وأحمد الله أن أتاح لي آخر الأمر هذا الفراغ، كما أتاح لي مكتبة عربية أقضي فيها بعض ساعات النهار (يقصد مكتبة جامعة الكويت التي كان يعمل بها أستاذاً للفلسفة)”.
هكذا عبَّر الرجل عن موقفه بصراحة وشجاعة: أنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة.. نأكل كما يأكلون، ونجد كما يجدون، ونلعب كما يلعبون، ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون!
وإذا كان د. زكي نجيب محمود قد اكتشف خطأه في التسرع بالجواب عن السؤال الكبير، قبل أن يعرف شيئاً عن تراث أمته وثقافتها، وطفق يعالج هذا الخطأ بالقراءة والدراسة للتراث، بعد أن فات ما فات من العمر، وأصدر عدة كتب ودراسات حول الموضوع، فإن كثيراً من تلاميذ الغرب لم يكتشفوا ما اكتشف من خطأ وربما اكتشفوه ولم تسعفهم الشجاعة ليعلنوه، ولم يواتهم العزم ليعالجوه، وربما كانت لهم مصالح وارتباطات وولاءات تحتم عليهم أن يظلوا مصرين على ما هم عليه، مدافعين عنه بكل ما يستطيعون.
وثمة آخرون راضون كل الرضا بموقفهم التبعي المقلد للغرب، اقتناعاً منهم لا خوفاً ولا طمعاً، كمن وصف الله تعالى بقوله: (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (فاطر: 8).
إن الموقف العلمي السليم أن نتبين: ماذا تعني الأصالة؟ وماذا تعني المعاصرة؟ أو ماذا يُطلب منا لكي نكون معاصرين حقاً؟ ثم ننظر: هل يوجد تناقض بين الأمرين؟ بحيث إذا قبل أحدهما رفض الآخر؟ أو أن كلاً منهما يكمل الآخر، ولا بد أن نعيش بهما معاً؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه فيما يلي من صحائف.
([1]) العدد (1086)، ص42-44 – بتاريخ: 20 شعبان 1414هـ – 1 فبراير 1994م.