التي نؤمن بها، وندعو إليها، وصفاً أساسياً لثقافتنا، ليست محض كلمة تقال، ولا دعوى تدعي، إنها حقيقة ثابتة، لها معانٍ تقوم عليها، ودلائل تنبئ عنها.
وتركيزنا على وصف ثقافتنا العربية الإسلامية بالأصالة ليس لمجرد التباهي والفخر، بل هو مؤشر أو مفتاح لمجموعة من المعاني الكبيرة، يجب التنبيه عليها.
1- ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا:
وأول هذه المعاني التي تتطلبها الأصالة المعرفة والفهم؛ فهم هذه الثقافة بخصائصها الذاتية، ومكوناتها الأساسية، فهمها من مصادرها الأصلية، وليس من المصادر الهامشية أو المدخولة، أو المنحولة، أو الواهية.
فهمها من أهلها الثقات لا المجروحين، ناهيك بغير أهلها، من الدخلاء عليها، الغرباء عنها.
فهمها بأدواتها ومناهجها الخاصة، لا بأدوات ومناهج غريبة عنها، مفروضة عليها.
لقد رأينا من يرفض رواية صحيحي البخاري ومسلم، ويأخذ برواية كتاب “الإمامة والسياسة” المعزو لابن قتيبة، وهو كتاب لقيط منحول لابن قتيبة.
رأينا من يطعن في أسانيد المحدثين، ويعتمد أسانيد كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني.
رأينا من يستند إلى روايات عن عصر الفتنة الكبرى ذكرها الطبري مثلاً، بأسانيد واهية مردودة، فاعتبر هؤلاء مجرد ذكرها من عالم كبير توثيقاً لها، وهو قد برئ من العهدة بذكر سندها، وعلى الباحث أن يرجع إلى عالم الرجال، ليعرف إن كان الراوي معدلاً أو مجروحاً، وقد بين في مقدمته لماذا اتبع هذا المنهج، ولم يدقق كما دقق في كتب الآثار أو كتب الفقه التي يعرف بها الحلال والحرام.
إن كتب الحديث، المروية بالأسانيد نفسها، فيها الضعيف والموضوع، فكيف بغيرها؟
رأينا من يحكم على تاريخ الأمة –وخصوصاً في أفضل عصورها– معتمدين على ما تذكره كتب الأدب والنوادر والأقاصيص، التي تروي الغث والسمين، والصدق والكذب، بحسبهم أنهم وجدوه في كتاب، ولو كان “ألف ليلة وليلة”.
رأينا من يعتبر المستشرقين حجة في كل ما يكتبون، ولا يحاول أن يمتحن آراءهم، ويناقش استدلالاتهم، ويقارن دعاواهم بعضهم ببعض، ولو فعل لوجد الكثير الكثير من التفاهات والتناقض والخطل المبين، والدعاوى العريضة بغير برهان، ولتبين له أن ثمة نقاط ضعف أساسية فيما يكتبه المستشرقون عن ثقافتنا، نبهنا عليها في بعض ما كتبناه من قبل، وهي:
أولاً: عدم تمكنهم من اللغة العربية، وتذوقهم لها، وتفهمهم لدلالاتها المتنوعة، وهذا لا بد أن يكون له انعكاسه على مدى فهمهم للمصادر الإسلامية الأصلية، وخصوصاً القرآن العزيز، والسُّنة المشرفة، ولهذا كان فهمهم للإسلام ورسالته مشوشاً ومنقوصاً.
ثانياً: عقدة تفوق الإنسان الغربي، والعقل الغربي، والحضارة الغربية، والنظر إلى الغرب أنه سيد العالم؟ وأن أوروبا أم الدنيا، وأن التاريخ من الغرب بدأ، وإليه يعود.
ثالثاً: الانطلاق من مسلَّمات غير قابلة للامتحان عند الإنسان الغربي، وهي أن القرآن ليس كلام الله، وأن محمداً ليس رسول الله، فهو قد كوَّن فكرته مقدماً قبل أن يبحث، ثم هو يسعى في بحثه للاستدلال عليها بكل ما يمكنه، وفي سبيل هذا يقبل الواهيات من الروايات، ويصدق الأكاذيب، ويضخم الوقائع الصغيرة، ويجعل من الحبة قبة، ومن الشبهة حجة، ويستدل بما ليس بدليل، ويرفض ما يخالف وجهته وإن كان في وضوح الشمس.
رابعاً: أن دراسات المستشرقين كثيراً ما تكون موجهة لخدمة أهداف علمية، مطلوبة منهم لهذه الدولة أو تلك، وكثيراً ما ترصد الملايين لتحقيق هذه البحوث، وهذا ما يجعل هذه الدراسات غير مبرأة من الغرض.
وقد بيَّن العلاَّمة محمود محمد شاكر في رسالته القيّمة النافعة “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” أن المستشرق الذي يدخل ثقافتنا دارساً مناقشاً، لا يمكنه أن يتحرر من ذاتيته، وسلطان لغته وثقافته ودينه، وأن يكون محايداً موضوعياً فيما يدرسه ويكتبه، وذلك من عدة طرق، تجعل مهمته صعبة كل الصعوبات، بل تكاد تكون مستحيلة على مثله.
فمن طريق “اللغة” التي نشأ فيها صغيراً، فإنه يسدده أو يتهدده، الإحاطة بأسرار “اللغة” وأساليبها الظاهرة والباطنة، وعجائب تصاريفها التي تجمعت وتشابكت على مر القرون البعيدة، فصارت ألفاظها وتراكيبها الموروثة والمستحدثة تحمل من كل زمان مضى، وكل جيل سبق، نفحة من نفحات البيان الإنساني بخصائصه المعقدة والمكتمة، أو خصائصه السمحة والمستعلنة، وبين تمام الإحاطة باللغة وقصور الإحاطة بها، مزالق تزل عليها الأقدام، ومخاطر يخشى معها أن تنقلب وجوه المعاني مشوهة الخلقة مستنكرة المرآة، بقدر بُعدها عن الأسرار الخفية المستكنة في هذه الألفاظ والتراكيب.
ومن طريق “الثقافة”، فإن “الثقافة” تكاد تكون سراً من الأسرار الملثمة في كل أمة من الأمم، وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معرف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أولاً عن طريق العقل والقلب، ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس بها، ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك، وبين تمام الإدراك، منازل تلتبس فيها الأمور وتختلط، ومسالك تضل فيها العقول والأوهام حتى ترتكس في حمأة الحيرة، بقدر بُعدها عن لباب هذه “الثقافة” وحقائقها العميقة البعيدة المتشعبة.
ومن طريق “الأهواء”، وهي التي تسري في خفاء وتدب، إلا أنها لا تدب ولا تأتيك إلا متبرجة في تمام زينتها من “اللغة” ومن “الثقافة” متردية برداء براءة القصد وخلوص النية، متحلية بجواهر الدقة والاستيعاب والتمحيص والمهارة والحذق، حتى يتاح لصاحبها أن يقتنص غفلتك، ويتلاعب عندئذ بك وبعقلك ما شاء له التلاعب، من حيث يوهمك أنه قد استوعب لك جمع “المادة”، ويهول عليك تهويل السحرة بما يحشد تحت عينيك ويستكثر، مخفياً عنك بتمويهه من “المادة” ما قد يبطل ما أراد من سحر عينيك واهتبال غفلتك، ثم استلحاق عقلك بعقله، إذ أنت عندئذ مفتون بالزينة المتبرجة، وبتحاسين رداء البراءة وخلوص النية، وبالحلي النفيسة المتلألئة التي يتطلبها “ما قبل المنهج” بشطريه؛ “المادة”، و”التطبيق”، إذا أنت هائم معه، مريد أو غير مريد.
المثقف الأصيل حقاً من وفق لمعرفة هذه الثقافة من مصادرها الحقة، واستقاها من ينابيعها الصافية، وَعَل منها ونهل، وأخذ منها بقدر ما اتسع واديه “فسالت أودية بقدرها”، أما من جهل هذه الثقافة، وحرم من السياحة في رحابها، أو التنـزه في رياضها، فموقفه منها موقف الجاهل لما يجهله، وقد قالت العرب: من “جهل شيئاً عاداه”، وفي القرآن تصديق ذلك حيث يقول الله تعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ َ) (يونس: 39).
وكثير من مثقفي عصرنا من حملة الألقاب الكبيرة من هذا الصنف، ومنهم من شب على ذلك، ومات عليه.
ومنهم من أراد الله به خيراً؛ ففتح له باباً إلى هذه الثقافة، جعله يغيّر رأيه، ويعدّل من موقفه كثيراً أو قليلاً، معترفاً بذلك في شجاعة تذكر له فتشكر.
من هؤلاء أ. إسماعيل مظهر، صاحب مجلة “الفصول”، ومترجم كتاب “أصل الأنواع” لدارون، وقد كان داروينياً خالصاً، ثم كتب في عام 1960م كتابه “الإسلام أبداً”، فانتقل –كما يقول د. حسن حنفي– من طرف إلى طرف، ومن نقيض إلى نقيض، ومن الحديث إلى القديم، ومن الجديد إلى التراث، ومن الوافد إلى الموروث.
ومن هؤلاء د. مصطفى محمود الذي بدأ في كتابه “الله والإنسان”، ثم انتقل من الجحود إلى اليقين، ومن الشك إلى الإيمان، ومن الماركسية إلى الإسلام، وأصدر في ذلك كتباً، وحرر مقالات، وقدَّم برنامجه الشهير في التلفزيون “العلم والإيمان”، بل حاول الاتجاه نحو فهم عصري للقرآن، وهو ما أنكره عليه كثيرون من أهل الاختصاص.
ومن هؤلاء –كما ذكرنا من قبل– د. زكي نجيب محمود، الذي أعلن ذلك صراحة في مقدمة كتابه “تجديد الفكر العربي”، قال: “لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم على فكر أوروبي –قديم أو جديد– حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه، لأن عيونهم لم تفتح على غيره لتراه، ولبثت هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواماً بعد أعوام: الفكر الأوروبي دراسته وهو طالب والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوروبي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ، وكانت أسماء الأعلام والمذاهب في التراث العربي لا تجيئه إلا أصداء مفككة متناثرة، كالأشباح الغامضة يلمحها وهي طافية على أسطر الكاتبين.
ثم أخذته في أعوامه الأخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو أنضج سنيه، بأن مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة، ليست هي: كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغي لنا أن نزيد! إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافات الغربية قد رصدت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت ترص بالمئات، لكن لا، ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة على الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول لك: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟”.
استيقظ صاحبنا –كاتب هذه الصفحات– بعد أن فات أوانه أو أوشك، فإذا هو يحس الحيرة تؤرقه، فطفق في بضعة أعوامه الأخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة أو الثمانية، يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان، أخذ صاحبنا –وما يزال– يعب صحائف التراث عباً سريعاً، والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرة واحدة؟
وما زال تيار الأصالة يكسب يوماً بعد يوم من أنصار التغريب الخلصاء أو المهجنين من مختلف مدارسه المادية أو العلمانية، الماركسية أو الليبرالية، ويضيف إلى رصيده جديداً، مسلحاً بأسلحة الغرب ذاته، قادراً على الدفاع والهجوم بفكر العصر، ومناهج العصر.
بيد أن الذي نركز عليه هنا: أن الأصالة الحقة لا تكون بمجرد الادعاء أو الإعلان، بل لا بد من الاطلاع الكافي على أصول ثقافتنا، مما لا يسع المثقف العربي المسلم جهله.
ليس من الضروري أن يقرأ ما قرأه مثلاً أ. محمود شاكر حين بدأ رحلته مع التراث وثقافته، مما حدثنا عنه في مقدمة كتابه عن المتنبي، ونشرته “دار الهلال” في “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”.
لكنْ هناك حدود دنيا لمن يريد أن يتعرف على هذه الثقافة، ويفتح مغاليقها، ويفقه سرها.
وفي مقدمة ذلك: اللغة العربية وعلومها وآدابها.
ثم تأتي علوم الشريعة بشتى فروعها: التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلومه، والفقه وأصوله، والعقيدة وما يتصل بها، والتصرف والأخلاق.
وفي كل علم من هذه العلوم أصول وفروع، وله مداخل ومفاتيح، وفيه مدارس ومذاهب، وله مصادر ومراجع، تولدت منها متون وشروح، وحواش، منها المبسوط، ومنها الوسيط، ومنها الوجيز، ومنها الخلاصة.
أضف إلى ذلك السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي العام، وتاريخ الطبقات والتراجم العامة والخاصة، وتاريخ العلوم ومصادرها.
وليس مطلوباً ولا ممكناً أن يتعمق “المثقف الأصيل” في كل هذه المعارف، ويسبر أغوارها، وإنما ينبغي أن يلم بها، ولو إلمامة سريعة، على نحو ما قالوا عن الأديب: هو من يعرف شيئاً عن كل شيء، بخلاف العالِم فهو من يعرف كل شيء عن شيء.
والمثقف في عصرنا هو الأديب في العصور الماضية.
([1]) العدد (1087)، ص44-46 – بتاريخ: 27 شعبان 1414هـ – 8 فبراير 1994م.