تحت هذا العنوان، وضح الكاتب في الحلقة السابقة عنصراً من عناصر الأصالة التي يقصدها وهو ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا، المعرفة بخصائصها الذاتية ومكوناتها الأساسية ومصادرها الأصيلة؛ فهمها من أهل الثقات لا المجروحين، ناهيك بغير أهلها من الدخلاء، فهمها بأدواتها ومناهجها.. إلخ، وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب عرض بقية عناصر الأصالة.
2- الاعتزاز بالانتماء الإسلامي العربي:
وثاني ما تتطلبه الأصالة منها هو: الاعتزاز بانتمائنا إلى الإسلام المؤثر الأول في صنع هذه الثقافة، الذي وجهها وجهته، وصبغها صبغته؛ (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138).
هو الذي حدد الأهداف ورسم المناهج، وأعطى الحوافز وأرسى الدعائم، وربى الإنسان الذي يفكر ويريد ويتحرك في ضوء كتابه الهادي للتي هي أقوم، وسُنة رسوله الذي جعله الله أسوة حسنة للمؤمنين، وختم برسالته كل رسالات السماء.
هذا الاعتزاز بالانتماء الإسلامي هو واجب كل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
فهو يعتز بنعم الإسلام؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، إنه دين الله الواحد، دين الرسل جميعاً، الذي لا يقبل الله ديناً غيره؛ (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) (آل عمران: 19)، وهو يعتز برسالة محمد عليه الصلاة والسلام؛ (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).
إن الرسول الخاتم الذي بعثه الله مصدقاً لما بين يديه ومصححاً لما حرف وبدل من الرسالات، ومتمماً لما جاء بها مما كان مناسباً للزمان والمكان وحال الإنسان، فكان عنوان رسالته التيسير، والتبشير لا التنفير، وفع الحرج عن الدين، والعنت عن المكلَّفين، وكان وصف رسالته في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل إنه (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).
وهو يعتز بأعظم كتاب أنزله الله تعالى، وهو القرآن، الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: 42)، هو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض؛ (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، إنه الكتاب الذي تحدى العرب فأعجزهم، وما زال تحديه قائماً، وإعجازه متجدداً، وهدايته دائمة إلى قيام الساعة.
وهو يعتز بانتسابه إلى “الأمة الوسط” التي بوَّأها الله مكان الشهادة على سائر الأمم؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110).
فهي أمة دعوة ورسالة، وليست أمة عنصرية منغلقة على نفسها، كبني إسرائيل، أمة هداية وليست أمة جباية.
ولكن العربي يضيف إلى هذا الاعتزاز اعتزازاً آخر، بأنه ينتمي إلى أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلغة القرآن، ويفهم عن الله ورسوله دون ترجمان، ويعيش في أرض تعتبر مآزر الإسلام، ومعقله، قريباً من مقدسات الإسلام ومساجد الإسلام الكبرى التي لا تُشد إلا إليها الرحال، يقول الله تعالى لرسوله: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {43} وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف).
ويعني (لَذِكْرٌ لَّكَ) أي فخر، مجد لك ولقومك، تذكركم به الأمم، ويقول سبحانه وتعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10)؛ أي فيه شرفكم وفخركم تذكرون به أبداً.
هذا الاعتزاز بانتمائنا الإسلامي العربي هو مقتضى الأصالة، فالأصيل هو من كان له أصل يرجع إليه، ونسب يعول عليه، وأهل يحتمي بهم ويلجأ إليهم إذا عدا عليه عاد، أو استخف بحرماته مستخف.
أما الدعي الزنيم، فليس له ما يعتز به، أو ينتمي إليه، ويستوي عنده الشريف والوضيع، والأصيل والدخيل، والنسيب واللقيط، بل لعله يفضل الثاني على الأول، دفاعاً عن خسته، وتبريراً لوضاعته، من حيث يشعر أو لا يشعر.
وقد نقلنا عن عمر الأول (ابن الخطاب)، وعن عمر الثاني (ابن عبدالعزيز) ما ينبئ عن هذا الاعتزاز.
وننقل هنا ما يؤكد هذا من كلمات ربعي بن عامر أمام رستم، قائد جيوش الفرس، وهي كلمات كانت نوراً من الكلام أو كلاماً من النور، كما يقول الرافعي، فقد سأله رستم: من أنتم؟ فقال ربعي رضي الله عنه: نحن قوم ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
بهذه الكلمات القليلة لخص هذا الصحابي فلسفة الإسلام وأهدافه الكبرى في حياة البشرية، إنها رسالة تحرير وتطهير، وإنقاذ وإصلاح.
هذا هو الاعتزاز الذي نريده من المثقف العربي المسلم الذي ينتمي إلى ثقافة العرب والمسلمين، ويشعر أنه عضو حي في جسم هذه الأمة العظيمة.
تريد من العربي المسلم أن يتحرر من عقدة النقص التي يعاني منها بعض الناس تجاه الثقافة الغربية، والحضارة الغربية، واللغات الغربية، والتقاليد الغربية، والأزياء الغربية، حتى الرذائل الغربية، والمنكرات الغربية!
أجلْ، من الناس من يحمر وجهه خجلاً، إذا لم يشارك القوم في شرب الخمر، إذا كان ضيفاً، وفي تقديمها إذا كان مضيفاً، وفي مراقصة امرأة صديقه ومراقصة صديقه لامرأته، على أنغام الموسيقى الصاخبة.
تريد من العربي المسلم أن يكون محور اعتزازه بالإسلام قبل أي شيء آخر، أي قبل العرق والقبيلة، والإقليم والطبقة، وأن ينشد مع العربي القديم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
وصدق الله إذ يقولك (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت: 33).
وإنما كان لهذا القول: (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قيمة؛ لأنه يقول معتزاً بمبدئه مباهياً بدعوته، كما قال الله تعالى لرسوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام).
وتريد من العربي شيئاً آخر، وهو الاعتزاز بلغته، لغة القرآن والحديث والثقافة الإسلامية، وأن يعمل على أن تكون لغة الحياة، ولغة العلم، ولغة الثقافة، وقد كانت لغة العلم الأولى في العالم كله لعدة قرون، فلا يجوز أن تعجز اليوم عما قامت به بالأمس.
3- العودة إلى الأصول
وثالث ما تطلبه منا الأصالة –إذا كنا أصلاء حقاً– أن نعود إلى أصولنا وجذورنا العقدية والفكرية، والأخلاقية، نستمسك بعراها، ونتشبث بأهدابها، ونحول اعتزازنا النظري والعاطفي إلى سلوك عملي.
إن الاعتزاز مطلوب ولا شك، ولكنه يصبح فاقد القيمة، عديم الجدوى، إذا لم يتحول إلى عمل.
بل إن الاعتزاز هذا يصبح ظاهرة مرضية إذا ظل مجرد كلام يردد، وشعارات ترفع، وصيحات تتعالى، لسرد الأمجاد، وتعظيم الأجداد، ثم لا نفعل نحن شيئاً، ولا نخطو خطوة إلى الأمام، وكثير مما تمثلنا بقول الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدباً
يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول: هأنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
وإننا نخشى أن يقول لنا قائل، ونحن نفتخر بمناقب آبائنا ومآثر أسلافنا ما قاله شاعر آخر:
لئن فخرت بآباء ذوي حسب
لقد صدقت، ولكن بئسما ولدوا
ماذا يغنينا أن نتحدث عن أبي بكر الصديق وليس لنا قوته ويقينه؟
وما يغنينا أن نتحدث عن عمر الفاروق وليس لنا زهده وعدله؟
وماذا يغنينا أن نتحدث عن عثمان ذي النورين وليس لنا حياؤه وبذله؟
وماذا يغنينا أن نتحدث عن علي المرتضى وليس لنا شجاعته وعلمه؟
وماذا يغنينا أن نتحدث عن الصحابة الكرام ونحن لا نتخلق بأخلاقهم ولا نقتفي آثاراهم؟
ونتحدث عن الأئمة المجتهدين، ولا نجتهد كما اجتهدوا، ولا نقول الحق كما قالوا، ولا نتقي الله في عملنا كما اتقوا، ولا نتعلم منهم فقه الخلاف إذا اختلفوا، وأدب الحوار والمناظرة إذا تحاوروا وتناظروا.
ونتحدث عن إنجازات الحضارة الإسلامية، ومنهجها العلمي الاستقرائي التجريبي، وأن الأوروبيين أخذوه عنها، واقتبسوه منها، ولكننا لا ننجز مثل ما أنجزوا، ولا بعض ما أنجزوا، كأن مجرد الاختيال والفخر بحضارتنا السالفة يجعلنا نحن متحضرين بالوراثة.
إذاً –للأسف– نكثر الكلام، ونقل العمل، ونكثر الحز ولا نقطع، وحسبنا أن يسمع الناس منا جعجعة ولا يرون من طحناً.
أخشى أن ينطبق علينا ما قال بعض السلف: “أنتم في زمن كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير معطوه قليل سؤاله، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، قليل معطوه كثير سؤاله، العلم فيه خير من العمل”.
ويبدو أننا نحن في هذا الزمان الذي كثرت فيه “الخطابة” وقلَّ فيه “الفقه” وكثر “السؤال” وقل “العطاء” وقدم فيه “العلم” على “العمل”، مع أن العلم في الإسلام إنما يراد للعمل، فلا معنى لعلم لا يثمر عملاً، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر.
والحق أن الرسوخ في العلم لا يتصور أن يكون بغير ثمرة، إنما الخطر في صورة العلم، أو قشور العلم، الذي يتمثل في الثرثرة والتفيهق دون أن يكون وراءه فقه أو بصيرة.
ما قيمة أن يحفظ المرء القرآن الكريم عن ظهر قلب، وربما يقرؤه بالقراءات السبع أو العشر، ولكن تفكيره ليس قرآنياً، وخلقه ليس قرآنياً، وحياته أبعد ما تكون عن القرآن؟
ما قيمة أن يحفظ الإنسان صحيحي البخاري ومسلم، أو الكتب الستة أو التسعة أو الأربعة عشر، ولكنه لا يتأدب بأدبها، ولا يهتدي بهداها، ولا ترى أثراً لها في صلته بالله ولا علاقته بالناس؟
هل هو إلا نسخة زادت من هذه الكتب؟
وما يقال عن الإنسان الفرد يقال عن الجماعة والأمة.
ما قيمة أن يكون لدى الأمة كنوز من الثقافة والمعرفة لا تقدر بملء الأرض ذهباً، ولا تملك أمة من الأمم عُشر معشار ما تملك من تراث ثقافي، ومع هذا لم تحول هذا التراث إلى حاضر معيش، يسري في كيانها، ويتغلغل في وجودها الظاهر والباطن، ويتفاعل مع كل ذرة فيها فتعتصره وتهضمه وتتمثله، ويغدو جزءاً من حياة يومها، بعد أن كان جزءاً من أمسها؟
لقد بيَّن الله تعالى ذلك لبني إسرائيل حين لم يعملوا بما علموا، وقال لهم: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 44)، وضرب لهم مثل الحمار تبشيعاً لموقفهم مما حملوه ولم يقوموا بحقه؛ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5).
ومن الناس من يخاف من كلمة فيها عودة أو رجوع، ولو كان الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأن العودة في رأيهم تعني السير إلى الخلف، وهم يتطلعون أبداً إلى الأمام.
ولكن العودة، ولو كانت سيراً إلى الخلف، تكون مطلوبة، بل لازمة، إذا كان السير إلى الأمام لا يؤدي إلى الهدف المنشود، ما معنى أن تسير إلى الأمام مغرباً، وهدفك مشرق؟ إن كل خطوة إلى الأمام تبعدك عن هدفك، وتضيع جهدك في غير طائل، بل في عكس ما تريد، والحزم كل الحزم، والعقل كل العقل هنا أن تقرر العودة، وتسير إلى الخلف، لأنك ابتداء مشيت في الطريق الغلط وإلا كان الأمر كما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغرباً
شتان بين مشرق ومغرب
وإذا سار الإنسان في طريق فوجده مسدوداً، ألا يعود متجهاً إلى الوراء؛ ليبحث عن طريق آخر؟
وإذا وجد أمامه حفرة لا يستطيع تخطيها، أو وجد علامة “ممنوع المرور” من هذا الاتجاه، ألا يتراجع ويغيّر طريقه؟
لماذا ذكره العودة أو الرجوع إذا كان من ورائه تصحيح اتجاه، أو تقويم خطأ، أو تقريب من هدف؟
ومثل كلمة العودة تأتي كلمة الأصول وقد أصبحت اليوم كلمة مخوفة، والنسبة إليها الأصولي أو الأصولية نسبة ترتعد منها الفرائص، وتصطك لها الأسنان، وتقشعر منها الأبدان، وغدت كلمة الأصولية مقترنة بكلمات أخرى تكون اليوم قاموس التخويف من الإسلام وصحوته ويقظة أمته، من هذه الكلمات الشقيقة: التطرف، التعصب، السلفية، الإرهاب.
وينبغي –نحن دعاة الوسطية الإسلامية– ألا ترهبنا هذه الكلمات التي يتخذون منها سيوفاً يستلونها أمام أعيننا، ملوحين بها، حتى نفرَّ مذعورين، أو نهرب مختفين، وندع المجال لهم وحدهم ليعربدوا ويفسدوا، كما قال الشاعر:
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
ينبغي أن يكون موقفنا ما عبَّر الإمام الشافعي رضي الله عنه قديماً، حين دافع عن آل البيت، فاتّهم بالرفض؛ أي التشيع، فقال:
إن كان رفضاً حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافض!
ونحن نقول لك: إن كانت العودة إلى أصول الإسلام، والدعوة إلى تطبيق شريعته، والاحتكام إلى كتابه وسُنته، والمناداة بوحدة أمته.. أصولية عندكم، فنحن أول الأصوليين، وأنا أقول هنا: اللهم أحيني أصولياً، وأمتني أصولياً، واحشرني في زمرة الأصوليين!
إن أول ما ندعو إليه تجاه هذه الكلمات الشائعة وأمثالها هو تحديد المفاهيم، حتى لا تترك هذه الكلمات والمصطلحات هلامية قابلة لأكثر من تفسير، وأكثر من مدلول، وكل من شاء يفسرها بما شاء، وفقاً لهواه، أو تبعاً لمذهبه، وبهذا تضطرب المعايير، ويخبط الناس خبط عشواء.
4- إحياء السلفية المجددة
ومما يكمل معنى العودة إلى الأصول والجذور: الحرص على التشبع بروح السلف الصالح لهذه الأمة، وعلى رأس السلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وإحياء منهجهم في فقه أحكام الله في شرعه، وسننه في خلقه.
وأؤكد هنا أن الذي نريده منهج السلف الكلي، وليس أقوال السلف الجزئية، وفرق كبير بين الأمرين.
منهج السلف يعني: طريقتهم الكلية في فهم الدين والعمل به، والعمل له.
ومنهجهم –كما يبدو من استقراء أحوالهم وأقوالهم وأعمالهم– هو النظر إلى جوهر الدين لا إلى شكله، وإلى مقاصد الشريعة لا إلى حرفيتها، وإلى روح العمل لا إلى مادته، وتغليب اليسر على العسر، والتخفيف على الإعنات، كما يبدو ذلك في مسلك الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمرنا أن نتبع سنتهم.
أما الأقوال الجزئية، فهذه تتأثر بظروف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وهي تتغير بتغير موجباتها.
ولهذا، قد ندع بعض أقوال السلف؛ لأنها كانت ملائمة لهم، ولم تكن ملائمة لنا، مثل الجهاد بالخيل، وإن ورد ذكرها في القرآن العزيز والأحاديث الصحاح، فقد غدت خيل العصر المصفحات والدبابات والمجنزرات.
ومثل ذلك إذا أفتوا أو قضوا وفق معارف عصرهم، مثل أقوالهم في مدة الحمل، التي وصلها بعضهم إلى أربع سنوات أو خمس سنوات أو سبع!
إن السلفية الحقة لا تعني أن نسير سير السلف في الشكليات والجزئيات المتطورة بتطور العادات.
لا يعني اتباع منهج السلف أن نجلس على الأرض كما كانوا يجلسون، وأن نأكل باليد كما كانوا يأكلون، وأن نركب الجمل في الأسفار كما كانوا يركبون، وأن نبني دورنا باللبن كما كانون يبنون.
وما أظن أحداً عاقلاً يقول بمثل هذا إلا من باب التشبه بالرجال، وتوطين النفس على الزهد في الدنيا، ولا بأس بهذا، لتربية النفس، والسمو بالروح، ابتغاء رضوان الله تعالى.
وربما وجد في محيط الصحوة الإسلامية اليوم من يتشدد في تقصير الثوب، أو إطالة اللحية، أو لبس النقاب، وذلك مهم في هذه المرحلة، لأنه من مظاهر التميز، ودلائل التحدي، وعلامات التحرر من رواسب عهد الاستعمار، وما خلف من أفكار ومشاعر وأنماط من السلوك.
بيد أن الخطأ أو الخطر يتمثل في التشديد والإلحاح على هذه المظاهر، واعتبارها هي لباب الدين، وتأثيم من يرى رأياً آخر فيها، وتصنيف الناس بين الولاء والبراء على أساسها.
إن السلفية الحقة –كما بينت في بعض ما كتبت– لا تكون إلا مجددة، كما أن التجديد الحق لا يكون إلا سلفياً.. وهذا ما أثبته التاريخ.
فابن تيمية ومدرسته كانوا سلفيين، وكانوا مجددين حقاً، وأفكارهم التجديدية لا يجحد بها إلا مكابر.
رشيد رضا ومدرسته في عصرنا سلفيون مجددون، بلا جدال.
اتباع منهج السلف يوجب علينا أن نجتهد لعصرنا كما اجتهدوا لعصرهم، وأن نفكر بعقولنا لتنظيم حياتنا كما فكروا هم بعقولهم، وأن نراعي زماننا وبيئتنا وأعرافنا وأحوال عيشنا، إذا أفتينا أو قضينا أو بحثنا، أو تعاملنا مع أنفسنا أو مع الآخرين، كما راعوا هم كل ذلك، وأن نقتبس من غيرنا ما ينفعنا كما اقتبسوا، وأن نبتكر في أمر دنيانا كما ابتكروا.
إن عمر بن الخطاب غيَّر رأيه في بعض المسائل، وقضى فيها في عام برأي، وفي العام التالي برأي آخر ولم ير في ذلك حرجاً، وقال: ذلك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم.
ولما روجع في مسألة من مسائل الميراث تتعلق بالإخوة الأشقاء والإخوة لأم، وقال له الأشقاء الذين حرموا حسب القواعد: هب أن أبانا كان حماراً –أو حجراً في اليم– ألسنا من أم واحدة؟ لم يملك إلا النزول على رأيهم، وسن بذلك سُنة الاستحسان، وهو الخروج من صرامة القواعد إلى مرونة اعتبار المصالح ورعاية المقاصد.
وعمر بن عبدالعزيز قال: تحدث للناس أقضية (أحكام وعقوبات)، بقدر ما أحدثوا من بجور!
إن “السلفية” ظلمت من خصومها وكثير من أنصارها، على السواء.
فخصومها صوروها جموداً وتزمتاً وإعناتاً، ووقوفاً عند ظواهر النصوص، وأقوال الأقدمين، وخصوصاً ابن تميمة ومدرسته الحنبلية، فالسلفية عندهم لحية طويلة، وثوب قصير، ونقاب على وجه المرأة، وحرب على أهل التأويل والمخالفين بصورة عامة.
وقد ساعدهم على تثبيت هذه الصورة بعض دعاة السلفية الذين اهتموا بالشكل أكثر من الجوهر، وبالجزئيات أكثر من الكليات، وبالمختلف فيه أكثر من المتفق عليه، واعتبروا رأيهم هو الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، ورأي من خالهم هو الخطأ الذي لا يحتمل الصواب.
إني معجب بالمدرسة السلفية التجديدية التي تتمثل في شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، ولكن أخالفهما في بعض القضايا، وأنا بهذا أطبق منهجهما فقد دعوا إلى الاجتهاد لا التقليد ولو قلدتهما لخالفت منهجهما.
([1]) العدد (1088)، ص 44-46 – بتاريخ: 5 رمضان 1414هـ – 15 فبراير 1994م.