في الحلقتين السابقتين تحدث الكاتب تحت عنوان “ماذا تعني الأصالة؟”، فاستعرض عناصر هذه الأصالة التي تقوم على ضرورة المعرفة والفهم لثقافتنا والاعتزاز بالانتماء الإسلامي والعربي، وأهمية العودة إلى الأصول والتشبع بروح السلف الصالح في منهجهم الكلي، وفي هذا العدد يتناول الكاتب قضية التراث.
5- الانتفاع الواعي بتراثنا:
ومن دلائل الأصالة أن نجتهد في الانتفاع بتراثنا الفني، والغوص في خضمه الزاخر، لاستخراج لآلئه وجوهره، في الدين واللغة والأدب والعلم والفن وسائر المواريث الثقافية البناءة، التي خلفها الآباء للأبناء والأجداد للأحفاد.
ولا يتصور من أمة عريقة في الحضارة والثقافة أن تهمل تراثها وتاريخها الأدبي والثقافي وتبدأ من الصفر، أو من التسول لدى الغير، فهذا لا يقبله لنفسه فرد ولا جماعة لأن تسول الأغنياء رذيلة تنكرها الأخلاق، وجريمة يعاقب عليها القانون.
لكن كلمة “التراث” مثل كلمات أخرى كثيرة في هذا المجال، كثيراً ما أسيء فهمها، ووضعت في غير موضعها، حيث لم يتحدد المراد منها تحديداً يزيل اللبس والغشاوة عنها.
ذلك أن التراث يحتوي الحق والباطل، والصواب والخطأ، والسمين والغث، كما لا يخفى على كل من درس شيئاً من هذا التراث، فما المراد بالانتفاع به هنا؟
لقد حفل التراث بالطيب من القول، والجيد من العلم، كما امتلأ بالخبيث والرديء.
حتى الكتاب الواحد تجد فيه حقائق، سبقت الزمن، وأباطيل كأباطيل العجائز.
وتجد العالم الواحد يحلق كثيراً فيبدع، ويهبط أحياناً فيخرف، أو على الأقل يقبل الخرافة ويصدقها.
كنت أقرأ في تاريخ الطبري، وهو إمام جليل في التفسير والحديث والفقه والقراءات وغيرها، فأجده يقبل روايات يرفضها العقل والمنطق، ولكنه يعتذر إلينا بأنه أدى إلى من بعده ما أداه، إليه من قبله، فهو ناقل وليس بمستنبط، وحسبه أنه أسند كل رواية إلى قائلها، وإن لم يتعرض للسند بتعديل ولا تجريح، كما فعل في كتب الفقه والحديث.
وقد رأيته يرجح أن زمان الدنيا منذ خلق الله إلى أن تقوم الساعة سبعة آلاف سنة، وروى أثراً في ذلك عن ابن عباس، وأيد ذلك بآثار وأحاديث أخرى.
وهذا وأمثاله إنما هو من الإسرائيليات التي أشاعها أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وربما نقله عنهم ابن عباس إن صح ذلك عنه، وما أظنه صحيحاً.
ولا يكاد يسلم مفسر، أو محدث أو فقيه أو متكلم أو فيلسوف من أقوال وآراء، يراها بعقله أو ينقلها عن غيره، أثبت العلم ومقرراته اليوم أنها من جملة الأساطير.
ومن ذلك كلام الفلاسفة الكبار عن العناصر الأربعة، أو عن الأفلاك، أو عن شكل الكون ومركز الأرض منه أو غير ذلك مما أبطلته علوم العصر ووثباتها الهائلة حتى غدا تلميذ المدرسة يعرف عن الأرض والأفلاك أكثر وأصح مما كان يعرفه الفلاسفة العظام المشاهير.
وفي التراث أشياء لم يثبت خطؤها، ولكن لم تثبت جدواها، أو لم تعد الحاجة إليها باقية كما كانت من قبل.
وذلك مثل بعض مباحث علم الكلام المتفلسف، كالمواقف للإيجي، وشرحه للجرجاني، وشرح المقاصد للتفتازاني، والطوالع للبيضاوي.. وأمثالها، فهذه المباحث العميقة المجهدة لم تعد الحاجة إليها قائمة، ولم تعد تخاطب الناس بلسان العصر، وبعض مباحثات أمسى غير ذي موضوع، وبعضها تجاوز العلم أو أبطله، وينبغي وضع علم كلام آخر يعبر عن عصرنا، ويواجه تياراته، ويحل مشكلاته، يكون عمدته القرآن والعلم الحديث.
وفي علم الفقه مباحث مستفيضة عن العتق وما يتصل به من أبواب المدبر وأم الولد والمكاتب وغيرها، مما لم تعد الحاجة إليه قائمة أيضاً، وفيه أقوال تحمل طابع زمانها ومكانها، نجمت في عصور التقليد، لا تلزمنا اليوم في شيء إلا من باب الدراسة التاريخية، وفي علم التصوف شحطات ونتوءات في الفكر والتصور (كالحلول والاتحاد) تناقض صفاء التوحيد الإسلامي، وأخرى في السلوك والعمل (كالمبالغة في الزهد والتوكل) تنافي وسطية الخلق الإسلامي.
وفي كتب الأدب والشعر أشياء تجاوزت الدين والخلق والعرف والذوق، كالغزل في الذكور، والحكايات الهابطة.
وكل هذا تراث، فهل هذا هو المقصود من التراث الذي أقيمت مراكز ومؤسسات وإدارات لإحيائه ونشره وتقريبه للناس؟
وإذا قلنا: الانتفاع بالتراث، فهل يعني هذا أن نقبله كله بحقه وباطله، علمه وجهله!
إننا لسنا مع الذين يضفون القدسية أو العصمة على كل ما مضى ولا مع خصومهم الذين ينأون بجانبهم عن كل موروث، لا لشيء إلا لأنه قديم، ولكن لا بد لنا من التخير والانتقاء، وخصوصاً في مجال التربية والتثقيف، أو مجال الدعوة والتوجيه، أو مجال الحكم والتشريع، ولهذا أشرنا من أول الأمر أن المطلوب هو الانتفاع الواعي بالتراث؛ لأن الوعي هو الذي يميز بين ما يصلح وما لا يصلح.
الإسلام فوق التراث
وأود أن أنبه هنا إلى حقيقة يغفلها بعض المعاصرين من الكتَّاب العلمانيين بين الإسلامي والتراث، خلطاً أسحبه مقصوداً بحيث يوهم أن أحدهما يعني الآخر، وهذا ليس بصحيح، فالإسلام ليس مجرد تراث يؤخذ منه ويترك، شأنه شأن شعر امرئ القيس أو أبي نواس، أو كتاب “الأغاني”، أو “ألف ليلة وليلة”.
إن اعتبار الإسلام العظيم من جملة التراث تهوين من شأنه، وحط من قدره، وتضليل للقارئ أن السامع عن حقيقته، والواجب أن يعبر عن الإسلام باسمه الصريح، كما ارتضاه الله لنا؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3).
إن التراث –كما بينا– كلمة واسعة تشمل الجد والهزل، والصواب والخطأ، والحقيقة والخرافة، والصدق والكذب، والعلم والجهل، والروائع الهوابط، من أصول الشافعي وتصوف الغزالي إلى مجون امرئ القيس وخمريات أبي نواس، وشعر الغزل في الذكور، والحكايات المردودة، والإسرائيليات المردودة، والأحاديث الموضوعة، والآراء الفاسدة.. فأين هذا من وحي الله تعالى الذي يتمثل في الإسلام؟!
وإذا كان بعضنا يصر على أن يدخل الإسلام في التراث، فإن أول واجب هنا هو التفريق بين المستوى الإلهي والمستوى البشري من التراث، والأول هو المعصوم الذي دل عليه محكم القرآن والسُّنة، وهو الذي نطلق عليه الإسلام، وهو الذي يتلقى بالسمع والطاعة؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36).
أما الثاني، فهو صنعة العقل البشري في مجالات العلم والفلسفة والأدب والفن، بفروعها المختلفة، وألوانها المتنوعة، وفيها ما في كل عمل إنساني من قصور البشر، وهواء البشر، وأوهام البشر، وتأثرهم بالزمان والمكان، وشتى الظروف، والمؤثرات المادية، والمعنوية.
ويدخل في هذا عمل العقل الإسلامي في فهم الجانب المعصوم مما قد يسمى التراث، وهو ما يشمل علوم التفسير، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، والكلام، والتصوف، وهي علوم تتسع مسائلها –أو أكثرها– للأخذ والرد، والترجيح والتضعيف.
ولا غرو أن تعددت المدارس والمذاهب في التفسير ما بين الرواية والدراية، وفي الفقه ما بين أهل الرأي وأهل الأثر، ومدرسة الظواهر ومدرسة المقاصد، وما بين طريقة المتكلمين، وطريقة الحنفية في أصول الفقه، وطريقة من يجمع بينهما، وفي الكلام ما بين المقدمين للنقل على العقل، وخصومهم، وفي التصوف ما بين مدرسة التصوف التربوي الأخلاقي، ومدرسة النظريات الحلولية والاتحادية.
إن الإسلام –المتمثل في محكمات القرآن والسُّنة- فوق التراث، بل هو الحكم على التراث بالقبول أو الرد، فهو المعيار الذي لا يخطئ والهادي الذي لا يضل.
ومع هذا المعيار النقلي معيار آخر عقلي، ترد إليه الأمور بجوار الوحي، وهو “الميزان” المذكور في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى: 17)، وقوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).
وبهاتين الآيتين استدل الفقهاء الذين يحتكمون إلى القياس، مبينين أن النص الصريح لا يناقض القياس الصحيح، وبعبارة أخرى: لا تناقض بين صحيح المنقول وصريح المعقول.
يقول الإمام ابن القيم: “الله تعالى أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، بل كلها تتصادق متناصرة، يصدق بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض”.
قراءة مستبصرة للتراث
وبهذا نستطيع أن نقرأ التراث قراءة مستبصرة، نقرؤه ونحن نقف على أرض صلبة، نقرؤه ومعنا هاديان من عند الله تعالى؛ هاد من خارجنا وهو الوحي، وهاد من داخلنا وهو العقل.
نقرأ شعر الجاهلين، إن شئنا فنرفض منه فضح الوثنية، ومجون الجاهلية، وحميتها، ونأخذ بعد ذلك ما وسعنا الأخذ، من روائع التصوير، وبدائع العبير، عن النفس والطبيعة والحياة، ونقتبس غوالي الحكم، التي سارت مسير الأمثال، كقول طرفة في معلقته:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خلت أنني
عنيت “فلم أكسل” ولم أتبلد
وقوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ونقرأ شعر الإسلاميين، فنجد الكثير الطيب مما ينفع الناس ويمكث في الأرض، ونجد القليل الضار، من المديح المسرف والهجاء المقذع، والعصبية القبلية، والمجون المكشوف، والشك المتحير، وما أشبه ذلك، فنعرض عنه.
نقرأ أبا العلاء، ونستمتع بروائع شعره، وهو يغوص في أعماق النفوس، وأغوار الحياة والمجتمع، وينقدها ويسخر منها كقوله:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً
تجاهلت حتى ظن أني جاهل
ووا أسفا كم يدعي النقص فاضل!
ولكنا لا نأخذ نظرته التشاؤمية في مثل قوله:
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيته على أحد!
وقوله:
وإذا أردتم للبنين سعادة
فالخير أجمع تركهم في الأظهر!
يعني: قطع النسل وعدم الإنجاب.
نقرأ لابن سينا ونقتبس منه، فيلسوفاً وعالماً وطبيباً، ولكننا ننقد ما حاد فيه عن منهج القرآن والسُّنة حياداً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، في “إشاراته وتنبيهاته”، أو في “شفائه”، أو في “رسائله”.
بل نقرأ حجة الإسلام الغزالي وننهل من تراثه الرحب، ونحذر من بعض ما تضمنت كتبه من غلو الصوفية، أو من معارف أثبت علم العصر بطلانها، أو ما استندت إليه الأحاديث الواهية والموضوعة التي لا سند لها.
ونقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية، وما خلف من كتب كبيرة، ووسائل متوسطة وصغيرة وفتاوى متنوعة، ومباحث مستفيضة في الأصول والفروع، والمعقول والمنقول، فنغترف منها، وننتفع بها، ولكنا نخالفه فيما لا نقتنع به في العقليات والنقليات وفي بعض ما بالغ فيه، كإنكار المجاز في القرآن واللغة، وننقده كما نقد هو من قبله، ونقول ما قال تلميذه الذهبي: شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.
ونفعل ذلك مع النووي، وابن القيم، وابن حجر، وابن الهمام، وابن الوزير، والقرافي، والشاطبي، وابن خلدون، والدهلوي، والشوكاني.. وغيرهم، نستفيد منهم، لكن نفكر كما فكروا، ونجتهد كما اجتهدوا.
نقرأ التفسير، ونحذر من الإسرائيليات، والأقوال الفاسدات.
ونقرأ الحديث، ونحذر من الموضوعات والواهيات.
ونقرأ التصوف، ونحذر من الشطحات والتطرفات.
ونقرأ علم الفقه، ونحذر من الشكليات والتعصبات.
نقرأ هذه العلوم كلها من مصادرها الأصيلة، ثم من مراجعها الشارحة، لنستلهمها ونستهدي بها، ونستضيء من مشكاتها، ونأخذ منها ما هو أرجح دليلاً، وأهدى سبيلاً، أي لتكون مناراً هادياً يسدد مسيرتنا، لا قيداً ثقيلاً يغل حركتنا.
وإذا كان هذا موقفاً من التراث ذي الصبغة الدينية وعلومه المأثورة، وهو موقف التخير والانتقاء، بعد التحصيل والارتواء؛ فمن باب أولى أن يكون هذا موقفنا من سائر معارف التراث العلمي والأدبي والفني.
وينبغي لنا أن ننهل من هذا التراث بكل معارفه، وكل ألوانه، وكل مدارسه، وكل مذاهبه، لا أعني الناشئة الصغار، الذين ينبغي أن يحموا من السباحة في الأعماق خشية أن يغرقوا، وإنما أعني أهل العلم وطلاب التبحر والتعمق فيه، كما حكى الإمام الغزالي عن نفسه في كتابه “المنقذ من الضلال”، وكما حكى الإمام أبو إسحاق الشاطبي عن نفسه في كتابه “الاعتصام 15”.
لقد كان حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يحفظ الكثير الكثير من شعر الجاهلية، ويحتج به تفسير القرآن، كما رووا أنه كان يحفظ رائية أبي ربيعة، على ما فيها من مجانة مرذولة.
وكانت عائشة رضي الله عنها تحفظ الكثير من الشعر الجاهلي، وتستشهد به، وتروي من قصص الجاهلية، وقد روى البخاري وغيره عنها حديث الزوجات الاثنتي عشرة وما وصفت به كل واحدة زوجها، وهو المعروف بحديث “أم زرع”، وقد استمع الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وهي تحكي هذه القصص، ولم ينكر عليها أو يضق بذلك صدراً.
إنا إذا تحصنا بالكتاب والميزان، خضنا لجج التراث، دون أن نخشى الفرق أو الضياع؛ (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران: 101).
قراءات متحيزة أو موجهة للتراث
ومن المتحدثين عن التراث: من يقرؤه، أو يدعو إلى قراءاته، قراءة لا توصف إلا بأنها “متحيزة” تنحاز لبعض المدارس دون بعض، ولبعض الاتجاهات دون بعض، ولبعض الشخصيات دون بعض، فهم يأخذون من التراث ويدعون، ويحذفون منه ويبقون، وفق أهوائهم وميولهم الخاصة، وهم يفسرون ما يأخذونه، كما يحلو لهم، اتباعاً للهوى، لا احتكاماً إلى كتاب أو ميزان مما أنزل الله؛ (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى:17).
من هؤلاء من ينحاز إلى “المدرسة الفلسفية” وخصوصاً “المدرسة المشائية” الإسلامية، التي جعلت أكبر همها التوفيق بين الفلسفة والدين، ولكنها اعتبرت الفلسفة أصلاً، والدين تبعاً، فإذا تعارضا أوّل الدين ليتفق مع الفلسفة، ويمثل هؤلاء الكندي، والفارابي، وابن سينا، ومن سار على دربهم.
ومنهم من ينحاز إلى “المدرسة الاعتزالية”، ويعتبر المعتزلة هم “المفكرين الأحرار” في الإسلام، ويذرف الدموع السخينة على هزيمتهم الفكرية أمام أهل السُّنة، بعد أن كانت لهم الدول خلال عدة عقود، وحديث هؤلاء عن المعتزلة يوهم أنهم جماعة عقلانية محضة، لا تذعن لنصوص الدين، ولا تخضع لأحكام الشرع، وهو تصوير غير صحيح لموقف القوم، وخصوصاً في مجال الفقه والأحكام العملية، التي كثيراً ما تبعوا فيها المذهب الحنفي.
ومن ينحاز إلى شخصيات معروفة دون غيرها، مثل ابن رشد، وابن حزم، وابن عربي، وابن خلدون، وكلامهم عن هؤلاء وأمثالهم يصورهم بصورة العقلانيين الخلصاء، الذين يرفضون النصوص إذا خالفت مقرراتهم العقلية، وهذه قراءة متحيزة لهؤلاء الأعلام، فكتبهم تدل بوضوح على أنهم –ككل المسلمين– لا يملكون أمام محكمات النصوص، إلا أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.
فابن رشد، وابن خلدون، كلاهما قاض شرعي وفقيه مالكي، وابن رشد هو صاحب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في الفقه المقارن، الذي يتجسد فيه احترام المصادر والأدلة الشرعية كلها، من الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس.
وابن حزم، وابن عربي، كلاهما فقيه ظاهري، يأخذ بظواهر النصوص وحرفيتها في مجال الفقه واستنباط الأحكام، وإن كان على ابن عربي اعتراضات جمة في تصوفه الفلسفي.
ولكن هؤلاء العصريين يستنطقون تلك العقول الكبيرة –على اختلاف اهتماماتها وتخصصها– بما يحبون هم أن تنطق به، لا بما نطقت به بالفعل، فهم يريدونها مترجمة عنهم، معبرة عن فكرهم لا عن ذاتها وفكرها الخاص.
هؤلاء يستلهمون التراث الماضي ما يبررون به الواقع الحاضر، وهو ما لاحظه باحث جاد -د. فهمي جدعان– يرى أن عملية “الاستلهام” هذه ليست إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر، بإسقاط غطاء تراثي عليها، وأن الذي يحدث عملياً أن الحاضر هو الذي يفرض قيمه ويلزم بها.
ومثل هؤلاء من يدعو إلى “إعادة قراءة التراث” وفق مناهج معاصرة، ارتضاها أصحابها، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها.
وهذا التوجه شائع عن المثقفين الذين مارسوا خبرة ما بمناهج العلوم الإنسانية الحديثة، وبالفلسفات المعاصرة الغربية، فكل واحد من هؤلاء يقرأ التراث وفقاً لمنهجه المحدد.
ويفسره ويوجهه تبعاً لإطاره المرجعي، فهذا يقرؤه قراءة عقلانية، وثان قراءة لسانية، وثالث قراءة مادية، ورابع قراءة براجماتية، وقراءات أخرى معرفية ووظيفية وبنيوية، إلى آخر التصنيفات التي يتعالم بها أسرى الفكر الغربي بمختلف تياراته، التي تحاول “أدلجة” التراث، وتوظيفه لخدمة أفكار مدرسة معينة، وتوجيهه توجيهاً قبلياً واضحاً، فهي ليست قراءة للفهم، وإنما للفعل والتأثير، بل للتثوير عند بعضهم.
والحقيقة –كما يقول د. جدعان– أن هذه “الأدلجة” لم تكن تعني في نهاية التحليل إلا شيئاً واحداً، هو أن الحاضر عاجز –بإمكاناته وقدراته الكامنة والصريحة– عن إحداث التغيير المنشود، وأن التراث الذي يشد الناس إليه هو الذي يملك القوة السرية على التغيير، وذلك –بطبيعة الحال– بعد توجيه قراءته الوجهة التي تخدم الأهداف المنصوبة.
لقد رأينا باحثاً مثل د. محمد أركون ينصب من نفسه حاكماً على التراث، يحكم فيه كحكم نمرود “يحيي ويميت”، فهو يبقي منه ما يريد، ويحذف ما يريد، تحت ستار ادعاء عريض هو النقد أو التحديد، وهو يقول: “لا بد من وضع التراث كله موضع البحث والنقد والتقويم في ضوء الاكتشافات الحديثة”؛ ولهذا نراه لا يكتفي بأن ينقد صحيحي البخاري ومسلم، بل يريد أن ينقد مصحف عثمان؛ أي المصحف الذي لا يعرف المسلمون غيره!
هكذا قال د. أركون، في ورقته التي قدمها إلى ندوة “التراث وتحديات العصر” عن “التراث: محتواه وهويته.. إيجابياته وسلبياته”، التي كان فيها الإطراء للمستشرقين، وغمز كل العلماء والباحثين المسلمين من المستقدمين والمستأخرين، حتى الأفغاني، ومحمد عبده.
ويحق ما عقب به د. جلال أحمد أمين حين قال: إنني أتعجب أشد العجب من أن بعض المعلقين وصف ورقة د. أركون بأنها تمثل مساهمة في اتجاه “تجديد التراث”، فإذا كان هذا تجديداً للتراث فكيف يا ترى يكون قتله أو تحقيره؟
([1]) العدد (1089)، ص48-50 – بتاريخ: 12 رمضان 1414هـ – 22 فبراير 1994م.