يراد بالمعاصرة أن يعيش الإنسان في عصره وزمانه، في أفكاره وقيمه وسلوكياته، في انتصاراته وهزائمه، في معمعة أحداثه، ومع أهله الأحياء المتحركين يفكر كما يفكرون، ويعمل كما يعملون، لا يعيش في عصر مضى بما يحمل من تصورات وعقائد، ومن قيم ومفاهيم، ومن أخلاق وتقاليد، ومن شعائر وشرائع، قد تكون صالحة للعصر وقد لا تكون.
جوهر المعاصرة، إذاً، هو معايشة الأحياء لا الأموات، والواقع الماثل لا الماضي الزائل، ولهذا مظاهره ودلائله، التي تقتضيها المعاصرة.
وهذا الإجمال له تفصيل، نبين عنه في هذا الفصل.
1- ضرورة معرفة العصر
أول دلائل المعاصرة أو مقوماتها أن نعرف العصر الذي نعيش فيه معرفة دقيقة وصادقة، فإن الجهل بالعصر، أو معرفته على غير حقيقته يفضي إلى عواقب وخيمة، كالطبيب الذي يصف دواء جيداً، ولكنه قد يقتل مريضه أو يضاعف عليه سقمه، إذ لم يشخّص داءه تشخيصاً دقيقاً؛ أي لم يعرفه كما ينبغي.
إن بعض الكتَّاب اللامعين في عالمنا العربي والإسلامي يتحدثون عن التفكير المادي وكأنهم في القرن الثامن عشر، مغفلين الاتجاهات الإيمانية التي برزت لدى الكثير من علماء ومفكري القرن العشرين.
ومنهم من لا يزال يتشبث بالماركسية وقد سقطت قلاعها العملية، وحتمياتها النظرية، في مسقط رأسها، ويدار مجدها.
ومنهم من لا يبرح ينادي بالقومية، وقد ذهبت ريحها منذ زمن بعيد، ويأتي الناس يبحثون عن تكتلات أكبر وأرحب، تحقق مصالحهم، وتدرأ أخطار المنافسين عنهم.
وقال المستشار طارق البشري، في حديثه عن “الإسلام والعصر”: إن المشكلة ليست في جهلنا بالإسلام، بل المشكلة في جهلنا بالعصر!
وهو يوجّه كلامه إلى العلمانيين ودعاة التغريب والتحديث، فهو يعيب عليهم عدم معرفتهم بالعصر، الذي يتباهون بالانتماء إليه أكثر مما يعيب عليهم عدم معرفتهم بالإسلام، فهذا مفروغ منه، وهم لا يدعونه لأنفسهم.
وإذا كان من دعاة التحديث من يجهل العصر، فإن في دعاة الإسلام من هو أكثر جهلاً به، لأنه يعيش في الماضي وحده، ويسكن في صومعة التراث، وقد أغلق عليه بابها، فلا يكاد أن يسمع أو يحس شيئاً مما حوله، ويا ليته يعيش في عصور التألق والازدهار، بل كثيراً ما يعيش في عصور التخلف والتراجع، فهو يفكر بعقولهم، ويتحدث بلغتهم، ويحيا في مشكلاتهم، ويجيب عن أسئلتهم، فهو حي يعايش الأموات أكثر مما يعايش الأحياء.
وربما اعتبر بعضهم موقفه الشخصي هذا معبراً عن موقف الإسلام، وهذا هو الخطأ الشنيع سواء من الشخص أو ممن يحلل موقفه.
فالإسلام ينكر بشدة على الذين يجمدون الماضي وحده، متبعين للآباء والأجداد، وإن كانوا في الباطل، ومن عباراته القارعة لهم: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ) (المائدة: 104) (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ) (الزخرف: 24).
وينكر الإسلام على الذين يجترون الذكريات الأليمة، ويعيشون في دوامتها الحزينة، فتنغص عليهم حياتهم، دون أن يصنعوا شيئاً لمستقبلهم، وفي ذلك يقول القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) (آل عمران: 156).
وفي مثل ذلك يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، بل قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان”.
والمراد بـ “لو” هنا “لو” المتمنية المتحسرة، وهي التي يقول فيها الشاعر.
ليت شعري، وأين منى “ليت”
إن “ليتاً” وأن “لوا” عناء!
ويقول الآخر:
وليس يراجع ما فات مني
بـ “لهف” ولا بـ “لثيت” ولا “لواني”!
وقال بعض السلف: الاشتغال بوقت ماضٍ تضييع وقت ثانٍ.
المطلوب، إذاً، أن يعيش الإنسان المؤمن القوي في حاضره وزمانه، وبعبارة أخرى: عصره، ينبغي أن يعرف حتى يتعامل معه على بصيرة.
وفي هذا ورد حديث أخرجه ابن حبان عن أبي ذر، وفيه: “ينبغي للعاقل أن يكون عارفاً بزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شأنه”، ومن الكلمات المأثورة: “رحم الله امرءاً عرف زمانه، واستقامت طريقته”.
وهذه المعرفة قد تكون مطلوبة طلب استحباب، أو طلب وجوب، فإذا كانت هذه المعرفة وسيلة لازمة لأداء واجب؛ كانت هي واجبة كذلك، وفقاً للقاعدة الفقهية الشهيرة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
خذ مثلاً: الفقيه والمربي والداعية، لا يستطيع أحدهم أن يصل إلى الصواب والرشد في مجاله إذا كان يجهل عصره، ويخاطب أهله بلغة عصر آخر، فلا مراء أنهم لن يفهموا عنه.
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)، يفهم منه أنه كما يجب على صاحب الرسالة أن يتحدث بلسان قومه حتى يفهمهم ويبين لهم، يجب عليه أن يتحدث بلسان عصره، حتى يفهم أهله ويبين لهم، وإلا لم تقم عليهم حجة.
ولقد قرر فقهاؤنا المحققون: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، والعرف والحال، فاعترفوا بأثر التغير الزماني، اعترافهم بأثر التغير المكاني، بل كثيراً ما قدموا تغير الزمان على سائر التغيرات.
حتى إن مجلة “الأحكام العدلية” الشهيرة نصت في إحدى موادها على هذه القاعدة فقالت: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.
ولهذا تغيرت بعض الفتاوى في عصر الصحابة عما كانت عليه الحال في عصر النبوة، كما في قضية جمع المصحف، وجلد الشارب في عهد أبي بكر، وقضية قسمة الأرض المفتوحة، وجلد شارب الخمر ثمانين في عصر عمر، وقضية جمع الناس على مصحف واحد في عهد عثمان، والتقاط الإبل الضالة في عهده، وقضية تضمين الصناع في عهد عليّ وقوله: لا يصلح الناس إلا ذاك.
وقد اختلفت الفتاوى في عصر التابعين عن عصر الصحابة.
واختلفت فتاوى عصر الأئمة المتبوعين عن عصر شيوخهم من التابعين وأتباعهم، اختلفت فتاوى أصحاب الأئمة وتلاميذهم عن فتاوى شيوخهم، وأئمتهم، لاختلاف العصر، رغم قرب العهد، وكثيراً ما عبروا عن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه الشهيرين (أبي يوسف، ومحمد) بقولهم: إنه ليس اختلاف حجة وبرهان، بل هو اختلاف عصر وزمان.
معرفة الواقع من تمام معرفة العصر
ومن تمام معرفة العصر: معرفة الواقع المعيش، الواقع المحلي (الوطني)، والواقع الإقليمي (العربي)، والواقع الإسلامي، والواقع العالمي.
وهذه المعرفة لازمة لكل من يريد تقويم هذا الواقع، أو إصدار حكم له أو عليه، أو محاولة تغييره.
وقد ذكر علماؤنا أن من واجب الفقيه أو المفتي أن يعرف الواقع قبل أن يفتي فيه بجواز أو منع، أو حل أو حرمة، فلا يكون كل بحثه وكل همه حول ما يجب أن يكون، مغفلاً ما هو كائن بالفعل، ولهذا قال العلامة ابن القيم: إن الفقيه هو من يزاوج بين الواجب والواقع.
وقبل ذلك، قال الإمام أحمد في بيان ما يجب أن يتصف به المفتي، فذكر العلم والحلم.. إلخ، ثم قال: ومعرفة الناس، وهذه العبارة “معرفة الناس” تعبير عن معرفة الواقع، وقد علق عليها ابن القيم بقوله: هذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً فيه، فقيهاً في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
ولا تتم معرفة الواقع على ما هو عليه حقيقة إلا بمعرفة العناصر الفاعلة فيه، والموجهة له، والمؤثرة في تكوينه وتلوينه، سواء كانت عناصر مادية أم معنوية، بشرية أم غير بشرية، ومنها عناصر جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية وروحية.
وتفسير الواقع كتفسير التاريخ، يتأثر باتجاه المفسر وانتمائه العقدي والفكري.
وقد حذرنا في كتابنا “الصحوة وهموم الوطن العربي والإسلامي” من النظرات: الجزئية، والمحلية، والآنية، والسطحية، والتلفيقية، والتبريرية.
وهذا ما ينبغي أن نحذر منه هنا أيضاً في بيان الواقع وتفسيره.
فعلينا أن نحذر من الاتجاه “الإطرائي” للواقع، ومحاولة تحسينه، وإبراز صورته سالمة من كل عيب، منزهة عن كل نقص، وغض الطرف عن العيوب الكامنة فيه، وإن كانت تنخر في كيانه، واتهام كل من ينقد هذه العيوب والآفات بأنه مشوش، أو مبالغ، أو متطرف.
ولنحذر كذلك من الاتجاه “التشاؤمي” الذي ينظر إلى الواقع بمنظار أسود، يجرده من كل حسنة، ويلحق به كل نقيصة، ولا يرى فيه إلا ظلمات متراكمة، موروثة من عهود التخلف، أو وافدة مع عهد الاستعمار، حكومات خائنة –بلسان أهل الوطنية– أو كافرة –بلسان أهل الدين– وجماهير مضللة، وأقطار هي مجموعة أصفار! وما يرجى من تغيير، أو يؤمل من إصلاح، فهو سراب يحسبه الظمآن ماء.
ومثل ذلك: الاتجاه “التآمري” في تفسير الواقع، الذي يرى وراء كل حدث –وإن صغر– أيادي أجنبية، وقوى خفية، تحركه من وراء ستار، يهودية أو صليبية، أو ماسونية، أو غيرها، ونحن لا ننكر أن هناك كيداً خفياً لهذه الأمة يكيده لها أعداؤها، الظاهرون والمستخفون، سُنة الله في خلقه، ولكن تضخيم ذلك بحيث يجعلنا “أحجاراً على رقعة شطرنج” يفتّ في عضدنا، ويصيبنا باليأس من أي توجه إيجابي لإرادة التغيير، ويريحنا بأن نشعر أننا أبداً ضحايا مَنْ هو أقوى منا، ولا حل أمامنا غير الاستسلام للواقع المر، ومن ناحية أخرى يجعلنا هذا لا نعود على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد، وتدارك ما وقع.
إن الأولى من تعليق أخطائنا على مشجب التآمر الخارجي، أن نردها إلى الخلل الداخلي؛ أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء، وهذا ما قرره القرآن بعد هزيمة غزوة “أُحد”، حيث خاطب المسلمين فقال: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران: 165).
وقريب من ذلك: الاتجاه “التنصلي” في تفسير الواقع، بمعنى أن أحداً لا يريد أن يتحمل مسؤولية ما في هذا الواقع من سوء وانحراف، فكل واحد، وكل فريق، يريد أن يحمل وزره على غيره، أما هو فلا ذنب له، ولا تبعة عليه.
الكل يشكو من الفساد، ولكن من المسؤول عن فساد الحال؟
جمهور كبير من الناس يحملون المسؤولية على العلماء، والعلماء يحملون المسؤولية على الحكام، والحكام يحملونها على الضغوط الخارجية أو الضرورات الداخلية.
والحق أن الجميع مسؤولون، الكل حسب ما له من مكانة وسلطة؛ الجماهير والعلماء، والمفكرين والمربين والحكام، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
ومن التفسيرات المحذورة للواقع: التفسير “التبريري” الذي يحاول أن يضفي على الواقع، ما يجعله مقبولاً ومشروعاً، وأن حاد عن الحق وسواء السبيل، وفي هذا لون من التدليس والتلبيس، بإظهار الواقع على غير حقيقته، وإلباسه زياً غير زيه، كالذي يلبس الخواجة الأوروبي جبة وعمامة، فيبدو وكأنه شيخ أزهري مسلم، وما هو من الإسلام ولا الأزهر في شيء.
إننا نريد معرفة واقع عصرنا وعالمنا عموماً، وواقع أمتنا خصوصاً كما هو، دون تحريف ولا تزييف، ولا تهويل ولا تهوين، ولا مدح ولا ذم، مستخدمين الأساليب العلمية الموضوعية في الكشف والرصد والتحليل، وفي هذا ما يساعدنا على تشخيص الداء، ووصف الدواء.
إن خصومنا يعرفوننا تماماً من قمة رأسنا إلى أخمص قدمنا، بل نحن –كما قال د. كمال أبو المجد، في محاضرة له في جامعة قطر– مكشوفون لهم حتى النخاع.
فهل عرفنا نحن خصومنا؟ وأقصد بخصومنا أصحاب المشروع الحضاري المخالف لمشروعنا، وكل الخائفين منا، والطامعين فينا؟
وإذا كنا لم نعرف أنفسنا كما عرفها غيرنا فأني لنا أن نطمع بمعرفتهم؟
هل عرفنا “البعد الديني” في سياسة الغرب العالمية، وسياسته معنا على وجه الخصوص، وعلى الأخص مع “إسرائيل”؟
هل عرفنا دور الكنيسة الحقيقي، وأصابعها المؤثرة في السياسة، برغم انفصال الدين عن الدولة؟
هل عرفنا ما ينفقه الغرب من مليارات وما يقوم به من جود في سبيل التنصير عامة، وتنصير المسلمين خاصة؟
هل عرفنا أن الغرب المعاصر لم ينفصل عن تراثه، بل بنى عليه، ولم يفعل ما يطالبنا به بعض “التقدميين” أو”الليبراليين” منا، وهو الانسلاخ من جلدنا؛ أي من تراثنا؟
يقول المفكر المغربي د. محمد عزيز الحبابي: الغرب نفسه يتغير باطراد في صيرورة متصاعدة، فلا غرابة أن يعتمد على تراثه الخاص، عساه يحافظ على معالم ثابتة في هويته، وينفتح ما يجري خارج مناطقه، دون تخوف من الذوبان، فمن العبث أن نقلد الغرب في كل شيء علنا نلتحق بالمعاصرة، وفي الآن نفسه يرفض بعضنا الاقتداء به في المحافظة على أصالتنا، كما يحافظ على أصالته.
([1]) العدد (1090)، ص 46-47 – بتاريخ: 19 رمضان 1414هـ – 1 مارس 1994م.