(سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 32).
نحن أمة لها تاريخ طويل وتراث ضخم، ومن حقنا أن نعتز به، وأن نبني على تراثنا، فإن الأمة التي ليس لها تاريخ تحاول أن يكون لها، والتي لا تراث لها تفتعل أن يكون لها تراث، فكيف إذا كنا أمة بعض تراثها أو أن العصب الحساس في تراثها هو الإسلام، دين أبعاده الزمان كله والمكان كله والحياة كلها، لا بد في التربية عندما نأخذ أولادنا بالتربية الدينية أو الخلقية أو السياسية أو الاجتماعية من الاعتناء بهذا التراث لكي نربيهم ونحن واثقون من أنهم قائمون على دعائم، ولذلك ينبغي أن نهتم بالتراث وأن نلتفت إليه، وفي ذلك يقول شوقي:
مَثَلُ القَومِ نَسوا تاريخَهُمْ
كَلَقيطٍ عَيَّ في الناسِ انتِسابا
أَو كَمَقلوبٍ عَلى ذاكِرَةٍ
يَشتَكي مِن صِلَةِ الماضي انقِضابا
أي إنسان يصاب بفقدان الذاكرة ينتظر له تمام الجنون إذ ينعدم العقل الذي يفكر ويستنتج، والأمة التي تغلب على ماضيها وعلى تراثها وتنبت صلتها الروحية والفكرية بمواريث الآباء والأجداد، فإنها أمة ستكون لقيطة في الميدان الدولي، فتحاول أي جبهة قوية أن تجعلها ذليلة لها، كما ستكون من الناحية العقلية أمة ليس لها أساس في تربيتها ووجهتها، نريد أن نبني على تراثنا، نظر أبو هريرة على التجار في السوق وهم مشغولون بالأخذ والعطاء، فقال: أنتم هنا وتراث محمد يُقسّم بالمسجد، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوا إلا قرَّاء القرآن، فعادوا إليه يقولون: ما وجدنا شيئاً غير قرَّاء القرآن، قال: وهل ترك محمد من تراث غير هذا الكتاب.
وتراث الإسلام هو القرآن الكريم والسُّنة المطهرة والفقه الإسلامي بأعماقه التي استبحر فيها، والآداب والتربية التي نهضت في تراثنا الروحي أو الوجداني أو الصوفي، وبعد تجريد هذا التراث من خرافات كثيرة لصقت به وأقدام التصوف اكتسبته من قراءتي لابن تيمية، ولمدارج السالكين، ولطريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، إذ تعتبر كتب تربية وكتب قلوب.
والشعر العربي الجاهلي والأموي والعباسي حتى هذا العصر يعتبر تراثاً.
تاريخنا بمده وجزره، عند الازدهار والضياع، ويجب أن نأخذ من هذا التراث إيجابياته وسلبياته، فعند الانتصارات تعرف مفتاح النصر، عندما انتصر التتار في بداية موقعة عين جالوت على جيوش المسلمين وشاع أنهم لا يقهرون، كان مفتاح النصر كلمة “واإسلاماه”، فإذا رجعنا للتراث استطعنا أن نتعرف على مفتاح النصر عند الضوائق الحالكة، ونحتاج لهذا التراث لمعرفة معدننا ما هو وما يصلح به وما يصلح له، وعند قراءة الشعر الجاهلي للتعرف على طبيعة الأمة العربية إذ إن هؤلاء “الجاهليين” هم آباء الصحابة، المعدن النفيس الذي اختير لحمل هذه الرسالة يجب أن يعرف، وذلك يمكن من خلال الشعر الجاهلي نفسه، عندما يصف رجل مسلم النفسية التي يمثلها هو وأنجاله عندما يقال لي: ألا تبكي أخاك؟ وقد أرى مكان البكاء، لكن بنيت على الصبر، وأمة تمثل الآن ألف مليون شخص بنيت على الجزع وعلى الطراوة والرخاوة، أين هي من الأجداد؟
ومن الصفات الأصيلة التي تضمنها الشعر الجاهلي نعرف حكمة الله التي تجلت في اختيار هذه الأمة التي كلفت بنقض بناء الإمبراطورية الرومانية التي سيطرت لستة قرون غرباً، والكيان الفارسي الذي سيطر على الشرق، وما كان يمكن انهيار هذه الحصون التي اقتحمها التخريب والاستبداد والجبروت والعلو في الأرض إلا على أيدي أناس من ذاك النوع الذي بني على الصبر والافتخار بالقتال والقتل في المعارك، ولذلك كان لا بد من التناسب بين الأمة والرسول الذي أنزل فيها.
إذا كان العالم الآن شرقاً وغرباً يعتز بأمور كثيرة، فلا يمكن أن تناوش هذه الحضارات التي شمخت بالضلال وتطاولت بالفساد وأن تلين قناتها أبداً أمام الطفولة الفعلية والنفسية، ولا يمكن أن تنهار إلا أمام جبابرة تعتز بالله لا بنفسها ولا بالضلال، فما يبكي يذكر ويتغنى به بكاء لثرى حزائننا ونبكي مع الباكين، وقديماً أراد اليهود ألا ينسوا حقهم الذي ضاع، فجاؤوا إلى جوار حائط المبكى وأخذوا يبكون حوله، ولكننا نسينا البكاء على الأندلس، فنسيت بأن لي أرضاً اسمها الأندلس، بل أصبح الشباب المسلم يذهب إلى الأندلس باحثاً عن الفساد، ولو درسنا المحفوظات والأدب العربي لتذكرنا وعرفنا:
تبكي الحنيفية السمحاء من أسف
فما بكي لفراق الألف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر تبكي وهي عيدان
لماذا لا يبكي الخلف ليعرف أن له حقاً، ولكن نسينا هذا التراث حتى نضحك ولا نبكي، وحتى نعيش لنلتمس اللهو والنكت.
لقد تميزت أمتنا بأنها دقيقة في معرفة تراثها كما تميزت أيضاً بالإسناد، ولا يوجد في العالم كله غير كتاب واحد تواتر كما سمعه الملك من الله وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الملك ونسمعه الآن غير القرآن.
وفي السُّنة الإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما يشاء، نحن نريد أن نعرف تراثنا وبأساليبنا التي دربنا عليها وعرفنا بها أمتنا وتراثنا من منابعه الصافية، ولن نسمح للآخرين بالتلاعب فيه، ومن قبل 15 سنة استطاع جاسوس يهودي واسمه كوهين أن يكون الرجل الثاني في حزب البعث العربي، ولكن الصدف وحدها هي التي كشفته، وقد كان يمكن أن يكون موجهاً أو كاتباً كبيراً أو وزيراً للتربية والتعليم أو أي شيء، وفي أمة تائهة مبتعدة عن تراثها يستطيع صهيوني أن يوجهها.
فلا بد لنا إذن من معرفة تراثنا ودراسته جيداً لمعرفة أنفسنا، وقد بذل الكثيرون جهداً مقدراً في ذلك، ولكن أن يكون على الأقل شريف النية، عندما دخل المستشرقون في تراثنا وزعموا أن الشعر العربي كله في الجاهلية لا أصل له، ومن العرب الفارغين أيضاً من صدق التراث الأجنبي وتبعه، ومن الناس من ينظر إلى التراث لكي يحرف الكلم عن مواضعه ولكي يلعب بالحقائق، ومن الناس من ينظر إلى أجزاء معينة من التراث بل من الحاضر نفسه، وقد جاء في كتاب التعصب والتسامح أنه قيل لغاندي: إن عالماً دقيقاً ألَّف كتاباً عن الهند وأحصى مثالب الهنود، وبعد أن أخذ غاندي الكتاب وقرأه قال: هذا الكاتب يشبه كانسي الطرق في بلادنا لا تقع عيونه إلا على الأقذار، وهذا شأن بعض الكتَّاب حيث تتوقف مهمتهم بالبحث عن العيوب.
وفي مصر، كان هناك نزاع بين الشيخ عبدالحليم محمود والشيوعيين، وكان أن تم تأليف كتاب ضد الإسلام، وتناولتُ الكتاب في إحدى الخطب، وقلت: إنه قد حاولنا أن نتحدث مجازاً عما نسميه باشتراكية الإسلام، وأنه اصطلاح ابتدعناه نحن من باب سد الطريق على اليساريين لنريهم أن أحسن ما عندهم بعض نصوص وقواعد عندنا، وكان البعض يريد أن يجعل من الإسلام نفسه فلسفة للشيوعية والمادية، فمثلاً لا يمكن قبول تفسير أن المد الإسلامي عبارة عن حركة البروليتارية في جزيرة العرب التي تريد أن تأخذ حقوقها من السادة عبدة الأصنام.