هناك رغبة شعبية ملحة في جميع أقطار العالم الإسلامي بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، ومن منظور قائم على النية الصادقة والإخلاص في تطبيق ما جاء به كتاب الله سبحانه وسُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت قضية تطبيق قوانين الشريعة التي تثار اليوم في مصر تلقى تجاهلاً من الحاكم المصري من مجلسه الذي سماه “مجلس الشعب”، وإذا كان ذلك المجلس الحكومي بصدد إصدار قوانين مدنية متنافية مع تعاليم القرآن الكريم وسُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنه تَوجب التنبيه إلى خطر “العجلة” التي قد توقع شعب مصر في فتنة إحياء قوانين بائرة أسقطها القضاء ورفضتها الشريعة الإسلامية السمحاء.
حول هذه القضية يتحدث فضيلة الشيخ محمد الغزالي في هذا المنبر.
من البديهي أن نرفض -نحن المسلمين- أن يعامل ديننا بأسلوب التصريحات، كذلك نرفض أن نتلقى تعاليم ديننا من امرأة مصرية تحمل جنسية إنجليزية تقوَّلت كثيراً على الإسلام والمسلمين، وتجاوزت تصريحاتها عبر صفحات وقنوات التلفزة الغربية حدودها لا لشيء سوى أنها تزوجت حاكماً من الحكام، وإذا كانت هذه المرأة قد انشقت عن الإسلام والمسلمين فلتترك أرضه ولتخرج إلى مكان بعيد.
البيت المسلم له وظيفته التي لا بد من القيام بها، ولا شك أنه مما يعين على أن يقوم البيت بوظيفته أن تؤدَّى فيه حدود الله تعالى؛ (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (البقرة: 229)، لذلك فإننا نصف هذه القوانين الوضعية بأنها “شريعة الخلع”، التي لا أدري لماذا تركها المشرعون المسلمون، لعلهم تركوها لأنهم لم يجدوها في القانون الفرنسي.
إن كلمة الأحوال الشخصية كلمة مكذوبة، ومدلولها أن الأمور الشخصية كالطلاق والزواج والوصية والميراث والحضانة أمور اجتماعية، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أوردها في القرآن والتشريع ولا بد من تطبيقها.
وأود أن أضيف أن الرجل قد يضيق في البيت والمرأة تضيق بالرجل، والإسلام واقعي أباح الطلاق مراعاة لهذا، ولكن (وهنا السؤال) أي طلاق الذي يبيحه الإسلام؟ هنا أذكر بالحادثة التالية:
ذهب رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: أريد أن أطلق امرأتي، قال له: ولِمَ؟ قال: لا أحبها، قال: ويحك! أو كل البيوت تُبنى على الحب؟ فأين التذمم والوفاء؟ لا بد إذاً من ضمانات خلقية ونفسية ومراعاة للضمير خوفاً من الله، ولست ممن يقول بأن المرأة تقاد إلى بيتها بواسطة رجال الشرطة، ولكن هل للمنحرفين (الخلع) الخارجين على طاعة الله طلاق؟ إذن لا بد من مراجعة جميع الآراء والوقوف عليها، وتطبيق ما وضعه شرع الله، ومن هنا على مجلس الشعب أن يبدأ، ولا بد هنا من التذكير أن الشرائع السماوية لم تمنع الطلاق وتعدد الزوجات، فلا اليهودية في العهد القديم ولا النصرانية في العهد الجديد فعلتا ذلك، ومنع التعدد المزعوم هذا إجراء مدني كنسي وضعه الناس وليس له نص ديني أو فقهي صريح.
وهنا نتساءل: هل المسلمون أساؤوا استغلال قضية التعدد؟ وأعني بهذا السواد الأعظم ونسبة الأغلبية في المجتمع المصري والمجتمعات الإسلامية، فلنتعامل بالبيئة والحسابات لتفصل في الأمر، وهنا على أعضاء مجلس الشعب أن يطلبوا النسبة الحقيقية والإحصائية للطلاق والتعدد من الجهاز المركزي للإحصاءات، والجميع يعلم أنه لا تعدد في مصر، والأزمة كما أريتها وأودعتها بعض كتبي أزمة نقص في عقود الزواج بواحدة مع الزيادة المطردة في السكان.
ومن خلال بعض الدراسات الميدانية في هذا المجال، تبينت أن المشكلة الكبرى أمام جماهير الشباب في كيف يتزوجون؟ هذه هي المشكلة الاجتماعية وليست المشكلة في التعدد، فما الذي جعل علاج المشكلة ينقلب رأساً على عقب؟ حتى صار ما لا أصل له يتحول إلى قضية معقدة، بينما الأمور المعقدة فعلاً لا يفكر أحد في حلها، ومن هنا فلا بد لي من مطالبة الشعب والحكومة بالحكم بما أنزل الله تعالى.
إن القرآن الكريم يبدأ بمخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (الطلاق: 1)، وهنا ربط الإسلام الطلاق بالقوة، فراعى في ذلك حماقة الإنسان وضعفه، كأن تجد رجلاً فقد وعيه من شدة سكره، يقول لامرأته: “أنت طالق”، جاءت الآيات لتخاطب الحالة والعقل وليس العقل وحده، وإلا فعقل هذا الرجل قد سلبته المسكرات، فهل سايرته الشريعة في نطقه بالطلاق ناهيك عن فسقه؟ من هذا المنطلق لا يصح لنا أن نسلب الرجل حق الطلاق مراعاة لما شاب فطرة البشر من شوائب وغرائب، وإذا أردنا أن نصدر قانوناً جاداً واقعياً تكون الشريعة هي الأصل فيه، فليؤخر إصدار القانون الجديد حتى تراجع الإحصاءات وتدرس القضية ولا يقتصر الأمر على اثنين أو ثلاثة من الطامعين في المشيخة أو الوزارة، هذا هو الأساس الذي يجب أن يتم، وإلا فستقع فتن وفساد كبير في هذا المجتمع المسلم.
إنني لا أجد مبرراً للاستعجال في إصدار هذا القانون في مصر، علماً بأن هناك كمّ كبير من القوانين التي لم ينظر إليها ولو بالإشارة، كإقامة حد الله في السارق والزاني، ونرى العجلة كل العجلة في دراسة وإصدار هذا القانون الذي لا يشكل من الوجهة الاجتماعية مشكلة مستعصية تحتاج إلى كل هذا الجهد الجهيد.
إن دين الله لا يقدر عليه أحد، فلنبدأ بتعديل قانون العقوبات وتحريم ما حرم الله كالزنى وغيره، وبعد ذلك نناقش التعدد إذا كان هناك ضرورة واقعية من صميم مشكلات المجتمع لتحريمه.
لنطبق حدود الله على الزنى أولاً؛ لأنه في نظر الإسلام يسلك مع القتل والشرك، فالله سبحانه وصف عباد الرحمن فقال: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (الفرقان: 68).
إننا نريد أن يوضع قانون إسلامي؛ لحماً ودماً، لا قانون تصدره بعض النسوة الهاربات من بيوت الزوجية، أو بعض من لا عقل لهم من الرجال، ولا سيما أولئك الذين لم يعرفوا شيئاً عن الفقه الإسلامي، كما أننا لا نريد أن نتأثر ونحن نصوغ قوانيننا بدعايات أجنبية أو بإيحاءات بعيدة عن ديننا الإسلامي الحنيف.
وفيما يتعلق بالطلاق، لا أنكر أن بعض الناس يتزوج للشهوة ويطلّق للشهوة، ومثل هذا ينبغي أن نفقهه ونعلمه كيف يصون أولاده، وكيف يرعى مستقبلهم، وهذه مسألة ملحوظة، ويجب علينا أن نعرف كيف نساهم في حلها ونحفظ للبيت المسلم كيانه واستقراره، وأرى أن العودة بشعبنا إلى المسجد وإعطاء المسجد رسالته الذي كان عليها يهيئ لنا جميع الأسس في الحفاظ على البيت المسلم، فالمسجد يعرّف المسلمين والمسلمات على كتاب الله وسُنة رسوله وفقه الإسلام في جميع مستلزمات الحياة في البيت والحياة الاجتماعية بشكل عام، ويقول الحق: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق) صدق الله العظيم.
وأتمنى أولاً: أن نرى تقوى الله سبحانه في الدعاة، لأنهم هم منبع الفقه والاجتهاد، منحهم الله العلم والتفقه، وهذه رسالتهم، فعليهم أن ينشروها بإخلاص وتقوى وورع، إذ عليها يؤسسون البيوت، وبها ومن بيت الله تسير قافلة الإسلام إلى الله في الدنيا، ولكن بماذا تسير القافلة؟ إنها تسير بتربية النفس بالفضائل والروحانية والإيمان والسكينة، قال الله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 1)، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد: 9)، فلا بد من العودة إلى أصل العقيدة من القرآن والسُّنة، ولا بد من أن يكون المسجد هو مكان الانطلاق، ونحن المسلمين أولى بذلك؛ لأن إسلامنا هو خاتم الرسالات لأفضل الأنبياء فليكن لنا اعتزاز بديننا وأحكامه.
وأنا أذكر أن الرئيس الأمريكي ريجان أعلن في حملته الانتخابية أنه مستعد في سبيل حماية قيم المجتمع الأمريكي وعقيدته أن يصنع حرباً صليبية ثالثة، وقد أنكر بتشدد فصل الدين عن الدولة، فلماذا لا نكون أولى بهذا المنطلق؟ دون أن نرى في بلادنا الإسلامية من يحارب الإسلام تحت دعوى التطرف والانعزالية، إن علينا أن نعود إلى الله مع الأخذ بكل أسباب القوة، والإسلام لا يقوم بالقوة، ولتعلم شعوبنا الإسلامية أن الحكم لا يخطف من أشخاص يملكون الحكم، وإنما يقوم بالإصلاح والإقناع والتوجيه واتخاذ كل أسباب الدعوة الصحيحة في تصويب مسالك الناس وأفكارهم.
(1) العدد (726) (منبر المجتمع)، 5 ذو القعدة 1405هـ/ 23 يوليو 1985م.