لا ينفعنا هنا ما زعمه بعضهم يوماً أننا يمكننا بأموالنا –التي هيأها لنا النفط وغيره– أن نشتري التكنولوجيا من أي مكان في العالم، ونستخدمها كما نريد، ونوظفها في إنهاض أوطاننا، وتطوير أوضاعنا، وتحقيق طموحاتنا التنموية.
فالواقع أن التكنولوجيا التي تشترى لا تطور المجتمع ولا تنقله إلى العصر، بل تساعده على الاستهلاك لا الإنتاج، والتقليد لا الإبداع، وتغيير المظهر لا الجوهر، والمبنى لا المعنى.
والذي يبيعوننا التكنولوجيا ليسوا بلهاء، حيث يبيعوننا ما يجعلنا نستغني عنهم، إنما يعطوننا البعض لا الكل والفرع لا الأصل، حتى نظل مربوطين بهم مشدودين إليهم مفتقرين إلى عونهم.
وما زال الناس يذكرون في الخليج تلك المدينة الخليجية الكبرى التي تعطلت فيها احدى محطات الكهرباء الرئيسة، فعاش نحو ثلث سكانها محرومين من كل آثار الكهرباء في الحياة الحديثة، لا ثلاجة، ولا مكيف ولا مروحة، ولا مصاعد ولا تلفاز، ولا.. ولا.. حتى أرسل المصنع أو الشركة التي اشتريت منها المحطة الخواجة المهندس الذي أصلحها!
إن التكنولوجيا المطلوبة هي التي تستنبت في أرضنا، وتنمو بنمونا، وتتفاعل مع واقعنا، وتمدها عقول أبنائنا، وتحملها سواعدهم، نحن لها أهل إذا استنبأت الوجهة، واتضح السبيل، والدين أعظم ما يعيننا على ذلك إذا أحسنا فقهه، وعملنا بتوجيهه.
لا تناقض بين النقل والعقل
وما أوهمه بعض الكتَّاب من أن البيئة الدينية لا تهيئ لمناخ علمي مزدهر، باقتراض أجود صراع بين النقل والعقل، أو بين النص الإلهي والاجتهاد الإنساني غير صحيح ترده النصوص ويرده التاريخ ويرده الواقع، فالعقل والمخاطب بنص الشارع والمكلف بفهمه والعمل به، والاجتهاد في دلالته، وملء الفراغ فيما لا نص فيه، وقد ترك النقل –أو الوحي– للعقل شؤون الكون والحياة كلها يصول فيها ويجول، ولم يحجر عليه في ذلك بل أمره وحرضه ودعاه.
والمحققون من علماء الأمة اعتبروا الوحي والعقل هاديين للخلق إلى الحق، يقول الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه القيم “الذريعة إلى مكارم الشريعة”.
لله عز وجل إلى خلقه رسولان؛ أحدهما: من الباطن وهو العقل، والثاني: من الظاهر وهو الرسول، ولا سبيل لأحد إلى الانتفاع بالرسول الظاهر ما لم يتقدمه الانتفاع بالباطن، فالباطن يعرف صحة دعوى الظاهر، ولولاه لما كانت تلزم الحجة بقوله، ولهذا أحال الله من يشكك في وحدانيته وصحة نبوة أنبيائه على العقل فأمره بأن يفزع إليه في معرفة صحتها، فالعقل قائد والدين مدد، ولو لم يكن العقل لم يكن الدين باقياً، ولو لم يكن الدين لأصبح العقل حائراً، واجتماعهما كما قال الله تعالى: (نُّورٌ عَلَى نُورٍ) (النور: 35).
ويؤكد ذلك الإمام أبو حامد الغزالي في عدد من كتبه، ففي مقدمة “المصطفى” يعتبر العقل القاضي الذي لا يعزل ولا يبدل، والشرع الشاهد المزكي المعدل، ويجعل العقل مركب الديانة وحامل الأمانة.
وفي “الإحياء” يقرر أن لا غنى بالشرع عن العقل، ولا بالعقل عن الشرع؛ فإن العلوم العقلية كالأغذية، والعلوم الشرعية كالأدوية، والشخص المريض يستضر بالغداء متى فاته الدواء.. وينكر على من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن، وهو في رأيه ظن صادر عن عمى في عين البصيرة.
وفي “الاقتصاد في الاعتقاد”، يصف عصابة الحق وأهل السُّنة أنهم الذين وفقوا بين مقتضيات الشرائع، وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول.
وفي كتاب “معارج القدس” الذي ينسب للغزالي نقرأ هذه الكلمات: اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل، فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس.
وأيضاً، فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر، فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل وهما متعاضدان، بل متحدان.
ولا غرو أن وجدنا في تاريخ حضارتنا كثيراً مما نبغوا في المجالين؛ العلوم الشرعية، والعلوم العقلية، ومن هذه العلوم العقلية: الطبيعية والرياضية والطبية.
فجابر بن حيان يسمى جابر الصوفي.
والخوارزمي مبتكر علم الجبر، إنما وصل إليه، وهو يؤلف رسالة فقه الوصايا والفرائض.
وابن رشد الحفيد صاحب كتال “الكليات” في الطب الذي تتلمذت عليه أوروبا عدة قرون، هو نفسه صاحب كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في الفقه المقارن، وهو قاض شرعي من فقهاء المالكية.
والفخر الرازي صاحب “التفسير الكبير” والكتب الشهيرة في علم أصول الفقه وعلم أصول الدين، كان من أشهر الأطباء في زمنه، ولم تكن شهرته في الطب تقل عن شهرته في علوم الدين.
وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية، هو أحد فقهاء الشافعية الذين ترجم لهم ابن السبكي في “طبقاته”، وترجم لهم الذهبي وغيره من مؤرخي الأعلام في الإسلام.
استخدام أسلوب الإحصاء
وإذا كان عصرنا يعتبر استخدام أسلوب الإحصاء من أبرز دلائل الطريقة العلمية في معالجة الأمور، وهو فارق مميز بين العلميين والعشوائيين أو الغوغائيين من الناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى الانتفاع بالإحصاء منذ عهد مبكر من إقامة دولته بالمدينة.
فقد روى البخاري، ومسلم، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: كنا مع سول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أحصوا لي كم يلفظ الإسلام”.
وفي رواية للبخاري أنه قال: “اكتبوا لي من يلفظ بالإسلام من الناس، قال: فكتبنا ألفاً وخمسمائة رجل” (الحديث).
فهو إحصاء كتابي يراد تدوينه وتثبيته، وذلك ليعرف عليه الصلاة والسلام مقدار القوة البشرية الضاربة، التي يستطيع بها أن يواجه أعداءه المتربصين به، ولهذا كان الإحصاء للرجال فقط؛ أي القادرين على القتال.
والإحصاء الذي تم في عهد مبكر من حياة الدولة المسلمة، وتم بأمر من الرسول نفسه في سهولة ويسر، يرينا إلى أي حد يرحب الإسلام باستخدام الوسائل العلمية.
وفي مقابل هذا، نجد في “العهد القديم”: أن أحد أنبياء بني إسرائيل أراد أن يعمل لهم إحصاء فنزلت عقوبة سماوية بهم! كأنما “الإحصاء” يمثل تحدياً للقدر أو الإرادة الإلهية، وهذا ما استنبط منه الفيلسوف المعاصر الشهير “برتراند راسل” أن تعاليم “التوراة” والكتاب المقدم لا تتيح مناخاً مناسباً لإنشاء عقلية علمية.
التخطيط
وإذا كان الإحصاء من دلائل الطريقة العلمية، فكذلك التخطيط، بل هو أوضح دلالة عليها، والتخطيط إنما يعتمد على الإحصاء، ويراد بالتخطيط وضع خطة لمواجهة احتمالات المستقبل، وتحقيق الأهداف المنشودة.
ومن الناس من يتصورون أو يصورون الدين في موقف المعارض أو المناقض لفكرة التخطيط العلمي للمستقبل، وهذا من أثر الفكرة القديمة التي جعلت العلم مقابلاً للإيمان، فهما ضدان لا يجتمعان، أو خطان متوازيان لا يلتقيان.
والحقيقة أن فكرة الدين في جوهرها قائمة على أساس التخطيط للمستقبل، ففيه يأخذ المرء المتدين من يومه لغده، وبعبارة أخرى من حياته لموته، ومن دنياه لآخرته، ولا بد له من أن يخطط حياته، ويضع لنفسه منهاجاً يوصله إلى الغاية، وهي رضوان الله ومثوبته.
وفي القرآن الكريم قصة جعلها الله عبرة لأولي الألباب، وهي قصة نبي الله يوسف عليه السلام، وفيها يذكر القرآن لنا مشروع تخطيط للاقتصاد الزراعي لمدة خمسة عشر عاماً، لمواجهة أزمة غذائية عامة، عرف يوسف –بما ألهمه الله، وعلمه من تأويل الأحاديث– أنها ستصيب المنطقة كلها، وقد اقترح يوسف عليه السلام مشروع الخطة، ووكل إليه تنفيذها، وكان فيها الخير والبركة على مصر وما حولها، قال: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ {47} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ {48} ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (يوسف).
ويظن آخرون أن التخطيط للغد ينافي التوكل على الله، أو الإيمان بقضائه وقدره، ولهذا يستبعدون كل الاستبعاد أن يقبل الدين فكرة التخطيط، فضلاً عن أن يوجِّه إليه، أو يحث عليه.
والحق أن الذي يتعمق في دراسة كتاب الله وسُنة رسوله يتبين له أنهما يرفضان الارتجال والعشوائية، وترك الأمور تجري في أعنتها بغير ضابط ولا رابط ولا نظام، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن التوكل على الله لا يعني إطراح الأسباب أو إغفال السُّنن، التي أقام الله عليها نظام هذا الوجود، ولا يكاد مسلم يجهل قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وترك ناقته أمام المسجد قائلاً: يا رسول الله، أأعقل ناقتي وأتوكل أم أطلقها وأتوكل؟ فقال له: “اعقلها وتوكل”.
وقال الإمام الطبري يرد على من زعم أن تعاطي الأسباب يؤثر في كمال التوكل: الحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، اتباعاً لسُنته وسُنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة للحبشة، وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك.
ومن قرأ سيرته عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يعد لكل أمر عدته، ويهيئ له أسبابه وأهبته، آخذاً حذره، مقدراً كافة الاحتمالات، واضعاً ما أمكنه من الاحتياطات، مع أنه كان أقوى المتوكلين على الله تعالى.
فهو حين أمر أصحابه –بعد أن اشتد إيذاء قريش لهم– بالهجرة إلى الحبشة، لم يكن هذا الأمر اعتباطاً، أو رمية من غير رام، بل كانت نتيجة معرفة بالظروف الجغرافية والدينية والسياسية للحبشة في ذلك الوقت.
فلم يكن من الحكمة ولا من حسن الخطة أن يأمرهم بالهجرة إلى مكان مهما بعد، في شبه جزيرة العرب، فإن قريشاً –بما لها من نفوذ ديني وأدبي– تستطيع أن تلاحقهم.
ولم يكن من الحكمة ولا من حسن الخطة أن يذهبوا إلى بلد تحت سيطرة الفرس أو الروم، حيث يحكمها أباطرة لا يقبلون مثل هذه الدعوة الجديدة.
ولم يكن من الحكمة ولا من حسن الخطة أن يذهبوا بعيداً إلى بلاد مثل الهند والصين، حيث تنقطع أخبارهم، وتكون الهجرة مهلكة لهم.
ولقد كانت الحبشة هي المكان المناسب جغرافياً، فهو ليس جد بعيد، ولا جد قريب، بل بينه وبين قريش بحر.
وكانت الحبشة هي المكان المناسب دينياً، فقد كانوا أهل كتاب من النصارى الذين يعدون أقرب مودة للمسلمين.
وكانت الحبشة هي المكان المناسب سياسياً، فقد كان يحكمها رجل اشتهر بالعدل والنصفة، ولهذا قال الرسول لأصحابه: “إن بها ملكاً أرجوا ألا تظلموا عنده”.
وهذا يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا في عزلة عن العالم من حولهم، رغم صعوبة المواصلات بين الأقطار بعضها وبعض.
ويدل على ذلك أيضاً موقفهم من حرب الفرس والروم، وما كان من جدل بين المسلمين والمشركين في هذا، مما نزلت فيه أوائل سورة “الروم”: (غُلِبَتِ الرُّومُ {2} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (الروم).
وهكذا، فقد كانوا –وهم في فجر الدعوة ورغم الضعف والاضطهاد– على صلة بالصراع العالمي بين الدولتين العظميين في ذلك العصر، أو المعسكرين الكبيرين؛ الشرقي والغربي.
وأوضح من ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في هجرته إلى المدينة، ففيها يتجلى التخطيط العلمي، والتوكل الإيماني جنباً إلى جنب.
فلقد أعد عليه الصلاة والسلام من جانبه ما يستطيع البشر إعداده من الوسائل والاحتياطات والمعينات.
ولقد اطمأن إلى المهجر الذي سينتقل إليه بعد أن بايع المؤمنين من الأوس والخزرج بيعة العقبة الأولى والثانية، واشترط لنفسه أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذراريهم.
واطمأن إلى الرفيق الذي سيصحبه في رحلته الجاهدة بما فيها من أخطار، وما تحمله من مفاجآت، ولم يكن هناك أفضل من أبي بكر رفيقاً.
واطمأن إلى الفدائي الذي سيبيت مكانه، معرضاً نفسه لاحتمالات الخطر وغدرات المتربصين، ولم يكن ثَمَّ أفضل من عليّ ابن عمه أبي طالب، فارس الإسلام، لهذه المهمة.
ورتب الدليل الخريت (الماهر) الذي يدله على الطريق، وما فيه من منعطفات ومخابئ يمكن أن تضلل عنه أعين الطالبين، فكان مشركاً أميناً؛ هو عبدالله بن أريقط، وهو ما أخذ منه الفقهاء جواز الاستعانة بالخبرة الفنية غير الإسلامية، مع الاطمئنان والأمان.
وهيأ الرواحل التي سيمتطيها هو وصاحبه، ودليله في سفرهم الطويل، واتفقوا على المكان والموعد الذي يستقلون به الركائب.
وتخير المخبأ الذي يختفي فيه أياماً معدودة، حتى تخف حدة المطلب، ويتملك القوم اليأس، واختاره في غير طريق المدينة، زيادة في التعمية على القوم فكان غار “ثور”.
وأعد رفيق الخدمة الذي يأتي بالزاد، والأنباء، خلال أيام الاختفاء، فكانت أسماء، وعبدالله بن أبي بكر، ومن بعدهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر، يأتي بغنمه فيحلبون منها، ويعفي على آثار أسماء، وعبدالله.
خطة محكمة الحلقات، متقنة التدبير، ولم تترك فيها فجوة دون أن تملأ، ولا ثغرة دون أن تسد، ووضع فيها كل جندي في دوره المناسب لظروفه وقدراته، فدور أبي بكر، غير دور عليّ، غير دور أسماء، وكل في موقعه الصحيح.
ومع هذا الإحكام الدقيق، كادت الخطة تخفق، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الغار، ويقفوا على بابه، وكان يكفي لكشف الأمر وإفساد الخطة أن ينظر أحد القوم تحت قدميه، ليرى الرسول وصاحبه في الغار، وهذا ما خشيه أبو بكر، وصرح به للرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له كلمته المؤمنة الواثقة: “ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟”، (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40).
وهنا تجلى دور “التوكل” الحق، فبعد أن يبذل الإنسان ما في وسعه ويتخذ من الأسباب والخطط ما يقدر عليه، يدع ما لا يقدر عليه من مفاجآت القدر، لله وحده، وهنا تقع “إن الله معنا” موقعها وتؤتي أكلها.
واقعنا المر لا يمثل أصالة ولا معاصرة
على أن واقعنا اليوم يؤكد أننا نعيش خارج عصرنا، فما زلنا حتى الآن مستوردين لمنتجات الغرب، نشتري أغلى الأجهزة وأفخر السيارات المشتملة على كل الكماليات –التي قد تصنع لنا خاصة وبطلب منا– ونركب أحدث الطائرات، ولكنا لا نصنع شيئاً من هذا كله، لم نصنع محركاً (موتور) لطيارة ولا سيارة ولو صغيرة، ولذلك لو كف الآخرون أيديهم عنا، ما تحرك لنا مصنع، ولا حلقت بنا طائرة، ولا سارت بنا سيارة.
في بعض بلاد الخليج وقفت الحياة في نصف المدينة الكبيرة؛ لأن إحدى ماكينات الكهرباء الكبرى توقفت، ولا يوجد من يصلحها، لا بد من خبير من بلادها التي صنعتها، ومن المصنع الذي صدرها!
التكنولوجيا لا تشترى من الخارج، وإنما تصنع في الداخل.
قلت في عدد من كتبي وما زلت أقول وأكرر: إن أمة سورة “الحديد” لم تتعلم بعد صناعة الحديد، فقد قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (الحديد: 25).
وقوله: (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إشارة إلى الصناعات المدنية، ونحن للأسف لم نتقن أياً منهما.
لقد صنع الغرب الكمبيوتر، وطوَّر أجيالاً منه جيلاً بعد جيل، حتى وصل اليوم إلى ما وصل إليه من مكنة وقدرة وسرعة، مع صغر الحجم وقلة النفقات، وما يزال يبدع ويطوّر ويحسن، ونحن العرب إلى اليوم مختلفون في مجرد تسميته؛ أهو العقل الإلكتروني، أم الدماغ الإلكتروني، أم الحاسب الآلي، أم الحسابة أم المحساب أم الحاسوب..؟!
لقد ذكرت في كتابي “الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي” الشروط اللازمة للخروج من سجن التخلف، والدخول في عصر التكنولوجيا المتقدمة، وهي شروط بعضها يتعلق بالأصالة وبعضها يتعلق بالمعاصرة، وبعضها يتعلق بكلتيهما.
ولا أود أن أعيد ما كتبته، ولكن أنبه عليه للرجوع إليه في موضعه، إن كنا جادين حقاً، أن ندخل العصر، ونلحق بالركب، ونسد الفجوة بيننا وبين عالم اليوم.
إن الذي نحن فيه لا يمثل أصالة، ولا يمثل معاصرة، إنه التيه والضياع.
إن أصالتنا الإسلامية والعربية لا يتصور بحال أن تكون حائلاً بيننا وبين التقدم العلمي والتكنولوجي، كما توهم كتابات بعض (المتطرفين) العلمانيين، الذين يلهثون جادين للبحث عن نقطة ضعف فيما يكتبه بعض الإسلاميين، فإذا عثر على ذلك في كتاب مغمور، أو مقال أو نحو ذلك، طار به كل مطار، واتخذ منه حجة لتوهين الموقف الإسلامي كله.
لقد زعم من زعم من هؤلاء أن الإسلاميين يعتمدون –في بيان موقفهم من العلم– على فكرة الإعجاز العلمي في القرآن، ويتمحلون لذلك تمحلات كثيراً ما تكون متعسفة وممجوجة.
وتصوير الموقف الإسلامي بمثل هذا غير عادل، وغير صحيح، فقد ذكرنا من الوجوه الموجبة لأخذ العلم المعاصر من أي وعاء كان، ما فيه الكفاية، ونزيد على ذلك أن الإسلام يدعو إلى العلم بأكثر من أسلوب في قرآنه وسنته، وينشئ “العقلية العلمية” التي ترفض الخرافات والأوهام والعواطف وتطالب بالنظر والتفكير والتدبر، وتنكر التقليد والجمود على ما كان عليه الآباء، أو السادة الكبراء، وتحكم البرهان والدليل في كل شيء: الدليل المنطقي والعقلي في العقديات والعقليات، ودليل المشاهدة في الحسيات والتجريبيات، والتوثيق النقلي في المسموعات والمرويات.
وهذا ما فصلناه في كتبنا، وأقمنا عليه الأدلة من كتاب الله تعالى، ومن سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن أصالتنا الإسلامية هي التي تهيئ لنا أفضل مناخ نفسي وعقلي، يمكن أن تزدهر فيه نهضة علمية تكنولوجية راسخة، يقوم عليها مجتمع يرى هذه النهضة عبادة وفريضة وضرورة، وهذا المناخ هو الذي ترعرعت في ظلاله حضارتنا العربية والإسلامية، التي مزجت بين الدين والدنيا، وجمعت بين العلم والإيمان، وصلت الإبداع المادي بالسمو الروحي والخلقي.
وهذا ما يجب أن نحرص عليه حين نسعى للحصول على علم العصر وتكنولوجيا العصر؛ أن نربط ذلك بقيم الإيمان والدين والأخلاق، حتى لا يكون العلم معول دمار، بل أداة عمار، وألا يعين الإنسان على عمارة دنياه بخراب آخرته وإشباع شهواته البهيمية، بجوع روح الإنسانية.
([1]) العدد (1093)، ص 45-47 – 17 شوال 1414ه – 29 مارس 1994م.