أوطان الناس قطعٌ من أكبادهم، وحبُّها أمرٌ فطري جُبلوا عليه، وهكذا جميع المخلوقات؛ فالطيرُ والأنعامُ والأسماكُ وغيرُها، سرعان ما تعود إلى بلادها التي تركتها من أجل السعي على الرزق، مهتدية بفطرتها إلى أوطانها التي نشأت على أرضها وترعرعت بين جنباتها؛
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأوّلِ منزل
والوطنُ هو مهد الصبا، ومدرج الخطى، ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، وموطن الآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، وهو يحقق معنى الاستخلاف في الأرض؛ (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، وحبُّ الوطن يكون في دم كل إنسان، وهو ما جعل العرب، كما يقول الجاحظ: «إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفرًا تستنشقه».
والمؤسسات التربوية في المجتمع، وعلى رأسها الأسرة، معنيّةٌ بغرس وتنمية هذه القيمة في نفوس الأطفال، خصوصًا في مراحلهم الأولى؛ باعتبارها معيارًا مهمًّا من معايير المجتمع، وصفة إيجابية مرغوبة، وإرثًا إسلاميًّا حضّت عليه شريعتنا الغرّاء. يُروى أن النبي ﷺ ودَّع مكة، وطنه، حين الهجرة، وداع الآسف على فراقها وترْكِها قائلاً: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (رواه الترمذي).
ولما قدم أصيل الغفاري إلى المدينة بعد الهجرة، دخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قبل أن يُفرض الحجاب، فقالت له: يا أصيل، كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابُها، وابيضت بطحاؤها، قالت: أقم حتى يأتيك النبي ﷺ، فلم يلبث أن دخل النبي ﷺ فقال: له: «يا أصيل كيف عهدت مكة؟» قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، وأمش سلمها، فاغرورقت عيناه الشريفتان وقال ﷺ: «حسبك يا أصيل لا تُحزنّا»، وفي رواية: «ويهًا يا أصيل، دع القلوب تقر»، وهذا الحنين للأوطان هو ما جعل بلالاً الحبشي يتمنى الموت على أرض مكة حين مرض بعدما قدم المدينة -لوخامة جوّها- فقال وهو على فراش المرض:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة بوادٍ وحـولي إذخـر وجليل
وهــــل أردنَّ يومًا مياه مجــنـــــــــة وهل يبدون لي شامة وطفيل
ومن هنا وجب على المربّين التأكيد على المعاني التالية في نفوس الأطفال:
– أن حب الأوطان من الإسلام، ولا يتخلى عن وطنه إلا منافق شديد النفاق، جاحد لا يستحق العيش على أرضه، ومن الإيمان معرفة أفضال الوطن وضرورة رد الجميل إليه؛ (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن: 60).
– أن خدمة الوطن، ورفعته، والتصدي لما يضره والدفاع عنه وقت الحاجة -فرضٌ لا جدال فيه.
– أن الوطن بالنسبة للمسلم وطنان: وطن أصغر، وهو الأرض التي ولد فيها ونشأ وتربّى عليها، وهي ذات حدود جغرافية معروفة. أما الوطن الأكبر فهو كل بلد يُذكر فيه اسم الله.
– أن حدود الوطنية الإسلامية هي العقيدة وليست الحدود الجغرافية التي صنعها المستعمر، وإذا كان البعض يعلي من قيمة الوطنية، فإن العقيدة تستوعب جميع هذه القيم، فبداخلها وطنية الحنين، ووطنية الحرية والعزة، ووطنية المجتمع التي تقوي الرابطة بين أفراد القطر الواحد.
– أن الإسلام لا يعترف بقبلية أو عصبية، بل يعتبرهما جاهلية. وهو يعلي -في الوقت ذاته- من قيم الحرية والعدل والمساواة، وهذا ما جعل سلمان يفتخر بإسلامه الذي حطّم القيود، وأزال الفروق، وجعل العرب كالفرس، والفرس كالأعاجم، سواء بسواء.
إذًا الولاء للوطن ليس منافيًا للولاء للدين، في حدود الضوابط الشرعية الممكنة، فلا يوالي المسلم في تبديل دينه، فهذا أمرٌ لا مساومة فيه. الإسلام لا يلغي الوطنية كانتماء إلى وطن، ولا يلغي القومية كانتماء إلى أمة، وانتماء المسلمين إلى الأمة الإسلامية لا يلغي انتماءهم إلى أوطانهم المحلية؛ ذلك أن الإسلام أقر التعدد؛ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48).
والمسلمُ مطلوبٌ منه أن يتعامل مع الناس في جلب المصالح، ودرء المفاسد، وتبادل عواطف الود؛ «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرًا فأقم» (رواه أحمد)، «يا فديك، أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت» (رواه الطبراني)، ولا حرج في أن يتعامل مع الناس وفقًا لقانون الأخلاق وحسن العشرة، بالكلمة الطيبة والعمل الصالح، فيقيم الصداقات، ويبرم العهود والصفقات، فقد فرح النبي ﷺ بانتصار النجاشي على خصومه، وبانتصار الروم على فارس، مما جاء أثره في مطلع سورة «الروم».
إن حب الأرض، وألفتها، والحنين إليها، أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وقد شدد الإسلام على بذل الجهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه؛ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8).
كما يرى الإسلام أن تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، فريضة لازمة؛ «وكونوا عباد الله إخوانًا» (رواه الترمذي)؛ ولذا ينهى الإسلام عن الحزبية والتحزُّب، وتقسيم الوطن الواحد إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتهم ويكيد بعضها بعضاً، أما معاني الوطنية الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، فجميعها لا تخرج عن تعاليم الإسلام.