يوتيوبر يتحدث عن وجوب تجديد الدين، وآخر يطالب بمراجعة الأنصبة والمواريث، وثالثة تفتي بإلغاء طاعة الزوجة لزوجها إذا كانت هي من تنفق على البيت، وممثلة تطالب المسلمين بمراجعة أحاديث البخاري وتتحدث عن الإمام الحافظ المحدّث كأنه صديقها… في المقابل يرى روّاد مواقع التواصل الاجتماعي معمّمين يحلّون الربا ويبيحون المخادنة ويروّجون للاستبداد، بل يرون إمامًا سابقًا للحرم المكي يمثِّل دور «كومبارس» في أحد الأفلام الترويجية!
هذه الفوضى أثرٌ لغياب العلماء الثقات عن ساحة الميديا، فتركوها لقمة سائغة لجمٍّ غفير من المنافقين والعلمانيين والملاحدة والشهوانيين والطائفيين المحاربين لدين الله، ولطوائف من الصوفيين المنحرفين، ثم للجهلة الذين يفتون بما لا يعلمون. والعجيب أن هؤلاء وهؤلاء يطعنون في الإسلام دون غيره من الأديان، والأعجب أن لديهم الجرأة على التصريح بآرائهم الصادمة دون خوف المساءلة، وهم -جميعًا- ليسوا ذوي صفة علمية، وليسوا ذوي إيمان ظاهر، بل لا نبالغ إذا قلنا إن أحدهم لا يحسن غسله ووضوءه ورغم ذلك يجادل في مسائل العلم وأبواب الدين!
الدعوة على الشبكة العنكبوتية
لم يدرك علماؤنا الثقات بعدُ تأثير الشبكة العنكبوتية على شعوبنا المسلمة، كما لم يدركوا أهميتها ومزاياها بالنسبة للدعوة كمجتمع هائل يحتاج إلى العلم والإفتاء على قدر اتساعه، ويحتاج إلى تطوير المهارات لمجاراة سرعته وحيز انتشاره، لقد تقوقع بعضهم مكتفيًا بما تم نشره من قبل من خطب وكتب ورقية، وغاية ما شارك به على الشبكة هو إعادة نشر ما سبق نشره، دون تواجد شخصي، ودون تفاعل حقيقي أو تجديد في طرق الدعوة، أو ربما عيّن «أدمن» لإثبات الحضور، وما هو بحضور، بل هو تقصير في حق نفسه وفي حق دعوة الله تعالى.
هل يعلم شيوخنا الأجلاء أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يقتربون من أربعة مليارات مستخدم في اليوم الواحد، بما يزيد عن نصف سكان المعمورة؟ وهل يعلمون أن الشباب هم أكثر الفئات العمرية استخدامًا لها؟ فماذا هم فاعلون إزاء هذه الفرصة الدعوية العظيمة؟ وإزاء هذا العدد الذي لم يحدث أن اجتمع في تاريخ البشرية؟ أمام هذه الثورة الاتصالية لا بد أن يعطي الدعاة العاملون ظهورهم قليلًا للوسائل التقليدية في الدعوة والتربية التي ربما أُحيلت إلى الاستيداع قريبًا، وأن يولوا وجوههم شطر ساحة الميديا، وإن لم يفعلوا صاروا كما قال الشاعر: (أيا صاح هذا الركبُ سار مسرعًا… ونحن قعودٌ ما الذي أنت صانعُ؛ أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدَهم… صريعَ الأماني والغرامِ منازع؟).
شروط الفتوى والمفتي
إن النصوص الشرعية ليست كلأً مباحًا يرعى فيه الجهلة والدهماء وباقى الأصناف التي ذكرناها، وإذا كان من أصول الفقه: «تغيّر الفتوى بتغير الزمان والمكان» فإنه يُراعَى ألا يكون ذلك تبعًا للهوى لإنكار معلوم من الدين بالضرورة، أو للتغمية على المسلمين وتحريف دينهم، بالزيادة عليه أو النقصان منه، وقد شهد الله بتمامه في محكم آياته بقوله عز وجل: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا…) [المائدة: 3]، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89].
وشرعُنا واضحٌ لا غموضَ فيه، ومنهاجُهُ بيِّنٌ لا لبسَ فيه، وهو قائمٌ على أسس علمية متينة، وقواعد عصيّة على الخلط والتزوير، فلا فُرجة فيه لمُدلِّس لاختراق إجماع الأمة أو تحريف الأحكام. مطلوب فقط من دعاتنا الموثوقين التصدي لمن يفتون بغير علم، ولمن يسعون لتشويه الدين وتمزيقه بقولهم هذا حلال وهذا حرام، وهذا واجب وهذا غير واجب، فتُنقل هذه الأقوال عنهم فيفشو الكذب وتصير فتنة، وهذا دور العلماء الربانيين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الحافظين لحدود الله، الذين إن غابوا اتخذ الناس رؤوسًا جهّالاً كما ورد في الخبر: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
تجديد الخطاب الديني
ومن القضايا التي يطرحها هؤلاء «اليوتيوبرات» هذه الأيام؛ قضية «تجديد الخطاب الديني»، مقصدهم منها: النفاذ إلى غيرها من المسائل الكبرى المتعلقة بالحدود والعبادات؛ فإذا كان بالإمكان -حسب ظنهم- التنازل في القضايا الصغرى اليوم؛ فبالإمكان التنازل في الكبرى غدًا. وهنا يكون دور الدعاة الحقيقيين، الفاهمين، الذين يسيرون على خطى النبي ﷺ ويعلمون شروط هذا التجديد؛ ومنها ألا يطال الأمور التوقيفية أو القطعية التي لا خلاف فيها، وأن يكون بغرض التيسير على المسلمين وفتح الطريق أمامهم لتمتين الأخلاق وتأسيس الحضارة، ومدّ حبال التواصل مع «الآخر»، وإظهار محاسن الدين، وعفو الله ورحمته بالبشر، وتنقيته من الثقافات الدخيلة. وهذا يحتاج تواجدًا وتفاعلاً وظهورًا، وكلّما نسّق الدعاة فيما بينهم كان ذلك أجدى وأنفع.
الواقع والعلاج
ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إنكم -أي الصحابة- في زمان كبير فقهاؤه، أي علماؤه، قليل خطباؤه، قليل سُؤَّالُه، كبير معطوه، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي من بعدكم زمانٌ؛ قليلٌ فقهاؤه، كبير خطباؤه، كثير سُؤَّالُه، قليلٌ معطوه، الهوى فيه قائد للعمل، اعلموا أن حُسنَ الهَدْي في آخر الزمان خيرٌ من بعض العمل». كأنه يتحدث عن واقع اليوم، والعلاج هو استنفار العلماء الربانيين والمفتين الثقات لسدّ هذا الخلل ومواجهة هذه النازلة.
ونختم بما قاله الشيخ «محمد صالح المنجد» في هذا الصدد: (وحاجة المجتمع المسلم إلى الإفتاء كبيرة؛ لأن المجتمع المسلم إذا انعدم فيه القائمون بالإفتاء بحيث لا يجد الناس من يتعلمون منه حكم الله في عباداتهم ومعاملاتهم وشؤونهم، فإن ذلك سيؤدي إلى تزايد الجهل بالشرعية، وتخبّط الناس خبط عشواء فيقعون في الحرام، ويحرّمون الحلال، ويرتكبون المعاصي من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ويعملون السيئات وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا. وهكذا يحلّ الخلل بعباداتهم ومعاملاتهم؛ ولذلك فإن نصب المفتين، والتصدي لهذا من فروض الكفايات).