جاء تطبيق نظام التعليم الإلكتروني أثناء جائحة كورونا في معظم دول العالم ليثير التساؤلات حول جدوى هذا التعليم ومدى نجاعته، وهل يمكن أن يحل بديلاً عن التعليم التقليدي القائم على الاتصال بين المعلم والطالب؟ وأي مصير ينتظر التعليم التقليدي في ظل التطور التكنولوجي الكبير؟ وهي تساؤلات يطرحها خبراء التعليم في العالم وتختلف إجاباتهم بشأنها.
نظريات موت المدرسة
يؤمن كثير من خبراء التعليم أن المدرسة التقليدية لم تعد قادرة على الوفاء باحتياجات العصر الذي يشهد منذ عقود ثورة إلكترونية غيرت المفاهيم السائدة حول التعليم ومتطلبات سوق العمل، بحيث اختفت وظائف وحلت محلها أخرى، وفي هذا الصدد ترد في أدبيات الخبراء التربويين والاجتماعيين الغربيين مصطلحات مثل «موت المدرسة»، أو «ما بعد المدرسة»، وبعدها شاع مصطلح «موت المدرس»، وهي مصطلحات تشابه مصطلح «موت الأسرة» الذي صاغه علماء الاجتماع منتصف القرن الماضي، وكان إيذاناً بالتطورات الاجتماعية التي شهدها المجتمع الغربي.
وقد سبق عالم المستقبليات البروفيسور كلايتون برينسون صاحب نظرية «الابتكار المزعزع»، والأستاذ بجامعة هارفارد العريقة أن توقع إفلاس نصف الجامعات الأمريكية بسبب التطور الكبير في مجال التقانة والرقمنة، وجاءت أزمة كورونا لتبرهن على صحة توقعه، ولم يكن هو وحده القائل بذلك؛ لأن نظريات موت المدرسة ظهرت منذ أوائل القرن تقريباً، وكثير من المفكرين المرموقين كتبوا في ذلك، مثل آلان تورين الذي كتب عن نظرية موت الجامعة في وقت مبكر للغاية (1973)، وكذلك نعوم تشومسكي الذي تنبأ باضمحلال الجامعات الأمريكية في مطلع القرن الحالي.
والموت وفقاً لبعض الدارسين لا يعني الفناء والتحلل، وإنما يعني التغيير الجوهري والحاسم في أدوار المؤسسة التعليمية، وفي تفكير القائمين عليها، وفي المناهج والوسائط الدراسية تحت وقع الثورة الرقمية، على حين يذهب البعض الآخر إلى حتمية اختفاء المدرسة كمؤسسة تعليمية بحجة أن التعلم يفوق التعليم من حيث الأهمية، ويجب أن يقوم على الاستجابة للفروق الفردية بين الطلاب، وهو ما لا يتيحه التعليم الكلاسيكي، ورغم الاختلافات بينهما فإنهما يشتركان في تشويه التعليم التقليدي والدعوة إلى تجاوزه (أنطونيو نوفوا، يارا ألفيم، 2020).
عوامل تشجع على التعليم الإلكتروني
النقاشات الجارية حول التعليم بعد كورونا ترجح أن التعليم الإلكتروني سيأخذ طريقه نحو الحلول تدريجياً محل التعليم الكلاسيكي، لكن الخبراء يميزون بين التعليم الأولي والتعليم العالي، ذلك أن بعضهم يرى صعوبة التخلي عن المدرسة في مراحل التعليم الأوّلي حيث تقل قدرة الطلاب على التعلم الذاتي باستخدام التقنيات الحديثة، لذلك يقترحون صيغاً تدمج بين التعليم التقليدي والتعليم الإلكتروني في هذه المرحلة، أما التعليم العالي أو الجامعي فيمكن أن يصبح إلكترونياً دون صعوبات كبيرة.
وفي هذا الصدد، يوضح د. أحمد الخطيب أن هناك عوامل موضوعية تشجع على تطبيقه في العالم العربي، ومنها:
– عدم قدرة الدولة في كثير من الأقطار العربية على إيجاد جامعات ومعاهد عليا تغطي كافة المناطق في الدولة.
– التكلفة المادية الباهظة للتعليم العالي؛ مما يشكل عبئًا على مؤسساته وطلبته، وفي ذلك إخلال بمبدأ تكافؤ فرص التعليم.
– التباين بين الوظائف والمهن التي ألفها المجتمع وتلك التي طرحتها أشكال التحدي الرقمي.
– حاجة العاملين في مختلف قطاعات العمل إلى تطوير قدراتهم وتنمية مهاراتهم لمواكبة التقدم التكنولوجي، وبالتالي ضرورة اتباع أنظمة تعليمية مرنة تناسب أوضاعهم.
السلبيات والإيجابيات
تبين لنا استبيانات الرأي التي أجريت على عينة من الطلاب في بولندا عددها 621 طالباً، أن الطلاب رصدوا بأنفسهم سلبيات هذا التعليم وأحصوا 21 صعوبة واجهتهم أثناء التعلم، ومن أهمها:
ضعف التواصل بين الطلاب بعضهم بعضاً؛ مما يهدد بتزايد النزوع الفردي والتوقع لدى الطلاب، وصعوبات كبيرة في دراسة المواد العملية التي تتطلب حضوراً في المختبرات والمعامل العلمية، واللجوء إلى شراء بعض الأجهزة الضرورية للتعلم (حاسوب شخصي، سماعات رأس، ميكروفون)، ضعف المقررات الإلكترونية مقارنة بالمناهج التقليدية، وعدم قدرة معظم المدرسين على التدريس من خلال الوسيط الإلكتروني، وعدم الانخراط في النشاطات المدرسية والوصول إلى صيغة إلكترونية بديلة لها، وإهدار أوقات طائلة أمام الحواسيب، وسهولة الغش أثناء أداء الاختبارات الإلكترونية مما يخل بمبدأ العدالة، وصعوبة خلق حافز ذاتي للتعلم خلافاً للتعليم التقليدي الذي كان ينمي ذلك من خلال التنافس بين الطلاب.
وعلى الجهة المقابلة، ذهب الطلاب إلى أن هناك مزايا للتعليم الإلكتروني لا ينبغي غض الطرف عنها، وأحصوا 13 مزية؛ لعل أهمها تقليص النفقات التعليمية من كتب وخلافه، وتوفير مصاريف الانتقال إلى المدرسة، وسهولة الوصول إلى المصادر التعليمية والمناهج، والتواصل الجيد مع المدرسين في أي وقت، ومتابعة التقدم التعليمي عبر وسائل التقييم، والتواصل الفعال عبر المنتديات النقاشية، والحد من انتشار الأمراض المعدية (ستيكولا وفولنيك، 2022).
المعوقات وسبل التغلب عليها
يشير الخبير التربوي علي أسعد وطفة إلى أن خدمات الإنترنت في العالم العربي تحُول دون تقدم التعليم الإلكتروني وتطوره، فالشبكات الموجودة ضعيفة في أغلبها، هذا إذا كانت متوفرة أصلاً، وبالتالي يصبح تدفق الإنترنت ضعيفاً، وسرعاته منخفضة على نحو لا يسمح بمتابعة الدروس بالبث الحي، من جهة أخرى هناك صعوبات تتعلق بتوفير الأجهزة الإلكترونية للمتعلمين، إذ لا تستطيع معظم الحكومات الاضطلاع بهذه المهمة، وتعجز عنها نسبة ضخمة من الأسر.
ويقدم وطفة بضعة مقترحات يمكنها تعزيز التحول إلى التعليم الإلكتروني، ومنها تأهيل المعلمين وتدريبهم على مهارات التواصل الإلكتروني وكيفية إعداد المحتوى الإلكتروني، وتعزيز البنية القانونية والتقنية؛ وهذه المقترحات لا تعني وجوب التحول إلى التعليم الإلكتروني والتخلي عن التعليم الكلاسيكي إلى غير رجعة، وإنما تعني إيجاد صيغة للموائمة بين النظامين، أو تطبيق التعليم الإلكتروني على نحو متدرج بحيث يتم التريث في تطبيقه على المراحل الأولية (المرحلتين الابتدائية والمتوسطة)، ويطبق جزئياً في المرحلة الثانوية، ويقتصر تطبيقه -في الوقت الراهن- على التعليم العالي وفق ضوابط معينة.