تمتد العطلة الصيفية في المدارس لأكثر من مائة يوم؛ ما يمثّل عبئًا على الآباء لاستيعاب الأبناء؛ فمنهم من يستثمر هذه الإجازة الطويلة لتحسين أحوال أبنائه باعتبارها فرصة للجلوس معهم واستكمال تربيتهم بعد فراغهم من أمور الدراسة وضغوطها، ومنهم من لا يفعل، بل لا يقدّر، من ثَمَّ، خطر الفراغ على الأبناء في هذه السنِّ الخطرة.
ومعلوم أنّ الفراغ بالنسبة للصغار والمراهقين يمثّل مشكلة ذات تأثيرات سلبية على تشكيلهم النفسي فيما بعد، وأنه كما جاء في الأثر: «نفسُك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل»، وقد زادت تلك الأخطار بعد ثورة الاتصال التي نعيشها التي يمثل أبناؤنا غالبية مستخدميها، وقد انفتحوا على الثقافات الأخرى، ورأوا من العجائب ما لم يخطر على بال الآباء، والأخطر من ذلك قدرة تلك الوسائل على شغل الفتى أو الفتاة لساعات ربما نسي فيها طعامه وشرابه وقضاء حاجته.
غرضُ البرنامج
يمكن للوالدين وضع «برنامج صيفي» يحتوي الأبناء في هذه الفترة كي تمر بسلام وتكون خيرًا لما بعدها، وهذا البرنامج يحتاج منهما اهتمامًا وتركيزًا شديدين خصوصًا في البداية حتى يعتاده الأبناء، غرضُ البرنامج استثمار العطلة في: تمتين علاقتهم بالله تعالى وتنمية معارفهم وخبراتهم والارتقاء بمهاراتهم، وزيادة الارتباط الأُسري، ودعم العلاقة الوالدية، ومعالجة الانحرافات إن وُجدت، والابتعاد بهم بالتالي عن المؤثرات المفسدة، واكتشاف الجوانب النفسية عند كل منهم، ومعالجتها قبل استفحالها، وتقوية شخصياتهم وتعويدهم الهمّة والمبادأة، فضلاً عن معالجة القصور الدراسي إن كان ثمة شكوى من ذلك.
شروطه
ويُشرط لهذا البرنامج أن يشارك الجميع فيه، بل أن يتفاعلوا معه، وأن يُخطط له، وتُوضع له الأفكار وأدوات التنفيذ، ومدته ووسائله ومستهدفاته، وأن يقلل الوالدان من أوامرهما بالامتناع عن التحذير والتهديد والاستجواب وغيرها، بل عليهم أن يتبادلوا الأدوار مع الأبناء، ويستمعوا لهم جيدًا، ويجب أن يتفرّغ الجميع لأداء البرنامج ما دامت فقراته قائمة، وأن تليه واجبات ومقررات يؤديها الأبناء، والأهم المداومة عليه والشغف به، وتلك مسؤولية الوالدين وقدرتهما على بذل الجهد والعاطفة، والتسلّح بالصبر وطول النفس.
معالمه
تتنوع معالم البرنامج من حيث الهدف، والشكل، والوقت، والإعداد، ووسائل التنفيذ لكنها تشكّل في النهاية أسلوبًا أبويًّا حاضنًا يقي الأبناء مواضع السوء، ويرتقي بهم إلى المعالي، ومن أهم هذه المعالم:
– رتِّب جلسة نصف أسبوعية لمدارسة القرآن الكريم؛ تلاوة وحفظًا وتفسيرًا، واجعل إدارتها بالتناوب فيما بينكم كي ينشغل بها الجميع، واجعل بجانب القرآن شيئًا من السُّنة والسيرة يُكلف الأبناء بعرضها، ومن المهم ضبط مواعيد الجلسة حضورًا وانصرافًا، وحبّذا لو خُتمت بدعاء أو إنشاد لأحد الأبناء، أو لأحد القرّاء أو الدعاة المحبوبين، ولو كانت هناك مسابقة أسبوعية فيما تم درسه لكان أجمل، على أن تُرصد لها جوائز ولو رمزية تحبيبًا لهم في الفقرة ودفعًا للسأم الذي ربما تملّكهم، وهو ما يفرض على الأم تقديم مشروب يفضلونه أو حلوى يحبونها.
– الإجازة فرصة لمتابعة أدائهم للصلوات عن قُرب، فالأب يتابع الأولاد، والأم تتابع البنات، وليكن –بالنسبة للأولاد- هناك حدٌّ أدنى للصلاة في المسجد لا يقل عن ثلاث صلوات، وهي فرصة أيضًا لمتابعة النوافل والحثِّ عليها، والحثّ على الذكر في كل حال، وعلى قيام الليل ولو بحدٍّ أدنى ليتدرب عليه الأبناء حتى يدركوا لذّته، ويفضل أن يكون كل ذلك من خلال جدول محاسبة يُنظر فيه ويُقيّم أصحابه في جلسة القرآن مثلاً.
– صُم ولو يومًا واحدًا في الأسبوع التماسًا للسُّنة، وصوِّمِ الأبناء معك، اشرح لهم فقه تلك النافلة، وفضلها وثوابها، وفوائدها على المستوى البدني والنفسي، وأهمية تمسّكهم بها في انتشارها في المجتمع فيما بعد.
– ارفع شعار «اقرأ.. طالع»، اجعله في مكان بارز بالمنزل، بغرض دفع الأبناء إلى المطالعة التي هجرها جيل الإنترنت رغم فيها من فوائد لا تُحصى، ليكن لديك مكتبة ولو صغيرة، يكون بها ما تراه مناسبًا ومهمًّا لمراحل الأبناء، ادفعهم دفعًا للقراءة، وناقش معهم ما قرؤوه، ودرّبهم على كتابة ما طالعوه، ودرّبهم أيضًا على الحوار والمناظرة، وأدبهما وكيفيتهما، وافتح مجالاً للنقاش حول أعمال الآخرين المنشورة على الساحة.
– اجعل إدارة البيت في هذه الفترة بالتناوب فيما بين أفراد العائلة، يؤتَى بالابن أو الابنة وتُشرح له كيفية إدارة يوم منزلي ويُترك لنرى ماذا يفعل، وليكن باقي الأفراد في خدمته، الأولاد يتسوّقون ويأتون بالسباك والنجار إن لزم الأمر، والبنات يساعدن في الطبخ والكنس والغسل وباقي مهام الأم، وفي نهاية اليوم، وبدون تجريح أو سخرية، يقيّم صاحب هذا اليوم أمام الجميع الذين يوجهون له الشكر، فيستفيد من يستلم البيت بعده، ولتكنْ هناك حملة نظافة شهرية للمنزل، يشمّر فيها الجميع عن سواعدهم ويختص كل منهم بمهمة، ويتم تخفيف البيت من المتعلّقات التي ليس لها فائدة.
– الإجازة فرصة للتدرّب على كل جديد في عالم ثورة الاتصال، مثل مجال اللغات، والحاسب الآلي، وبرامج الجرافيك وكل ما يتعلق بوثوب الشباب إلى هذا العالم الفضائي العجيب.
– حدّد ساعات بعينها لمشاهدة التلفاز والأندرويد، واسمح بمواد ومنصّات بعينها ولا تسمح بأخرى، وراقب من بعيد، وكن حازمًا في حال استهانة أحدهم بتلك الضوابط.
– توفير فرصة عمل مناسبة للولد أثناء نهار هذه الإجازة أمرٌ موفق؛ ففي الشغل فوائد جمّة للابن، وعونٌ للوالد والوالدة على استيعابه وتفادي ما يصيبه جرّاء التعطّل، فإن لم تجد عملاً اشغله بألعاب بدنية تمتص طاقته وتريح ذهنه، وفي كل الأحوال يمكنك عقد جلسة نفسية لتفريغ طاقاتهم يكون الحديث فيها عن ذكريات كل منهم ورغباته وطموحاته، وتلك فرصة مهمة لاستخراج مكبوتاتهم، ويفيد ذلك في علاج السلوك المعوج ودعم الأخلاق والقيم.
– نظّم مسابقة ترفيهية، يومية أو أسبوعية، على لُعبة جماعية بين الأبناء بعد تقسيمهم إلى فِرق متنافسة، وارصد جائزة للفائز، واجلس معهم في نهاية كل شوط واستخرج معهم الفوائد، وأهمية العمل بروح الفريق وبغرض الأُخوة والحب، لا بغرض الأنانية والتنافس المذموم.
– وإذا كان الأبناء قد ودّعوا الدراسة بتعبها وضجيجها وينتظرون الاستراحة السنوية والترفيه والمرح بالتنزّه خارج المنزل؛ فيجب أن تكون تلك الرحلات مخططة ومدروسة للاستفادة منها أيضًا، فيتم توزيع المسؤوليات على الجميع، ووضع ضوابط للرحلة يلتزم بها أفراد العائلة، ووضع برنامج له تفاصيل ومستهدفات، شرط أن يكون سمته الأساسي ترفيهيًّا بعيدًا عن الكبت والإلزام.
– وبمناسبة الخروج والترفيه؛ يلزم أيضًا وضع برنامج لزيارات الأهل والأقارب وأصدقاء العائلة واستقبالهم، وفيها يتعلم الأبناء، لو أُحسن توجيههم، الكثير والكثير من القيم، والثقة بالنفس، والقدرة على تحمُّل المسؤوليات.
– وهناك زيارات تربوية وجب على الأبوين وضعها في الحسبان؛ لما لها من أثر ديني وإنساني ووطني على الأبناء، وما فيها من عبر وعظات، مثل زيارات المقابر ودور المسنين والمشافي وغيرها.
والمقام لا يتسع لإيراد مهام أخرى ضمن هذا البرنامج، ولعل ما سبق هو الأهم، وما يعنينا هو ألّا يُترك الأبناء نهبة لوسائل التواصل الاجتماعي التي لا ترحم، وألا يكونوا ضحايا لأصدقاء السوء من خلف ظهر الأسرة، وذلك كله منعًا للفراغ القاتل، ولتفادي أمراض نفسية مضرّة مثل الانطواء والاكتئاب والخجل المرضي وغيرها، ومنعًا لسهر الليل ونوم النهار، والانصراف عن الصلاة وعن كتاب الله تعالى، ومنعًا للتقليد القاتل الذي ضيّع العديد من الأبناء، نسأل الله السلامة.