الذي يدرس العصور المظلمة في أوروبا، عندما تحالفت الكنيسة والإقطاع وتعاونا على استعباد الفقراء ومص دمائهم، يعلم بشكل شبه يقيني أن الخروج من تلك الظلمات لم يكن ممكناً إلا من خلال العلمانية التي ابتكرتها أو أنتجتها أوروبا للخروج من ظلم وظلمات تلك الحقبة الكئيبة في تاريخ البشرية.
كان الفلاحون يموتون من الجوع والفقر والقهر الذي يفرضه نظام الإقطاع، وقادة الكنيسة يدعونهم إلى إطاعة قوانين الملوك.
وعاش الفلاحون في العصور الوسطى حياة قاسية وجافة في عبودية للكنيسة التي لا تقدم لهم سوى الأوهام، والأمراء الإقطاعيين الغلاظ القساة الذين يملكون الأرض ومن عليها من البشر.
بشائر التغيير
ظل المجتمع الأوروبي في كافة أقطار القارة يعيش أزمة سياسية ليس لها من دون الله كاشفة، حتى ضربته أزمتان هزتا أركان نظامه الجائر المتمثل في تحالف الكنيسة والإقطاع.
داهمتهم المجاعة الكبرى في ربيع عام 1315م بسبب سوء الأحوال الجوية، حيث قضت على أغلب المحاصيل في عامي 1316 و1317م، ولم تتعاف منها أوروبا حتى عام 1322م، لم يكن فشل المحاصيل هو المشكلة الوحيدة التي واجهت أوروبا في ذلك الوقت؛ ولكن المجاعة الكبرى تسببت أيضاً في هلاك الماشية وانخفاضها بنسبة تصل إلى 80%.
ولم تكد أوروبا تفيق من المجاعة الكبرى حتى داهمها الموت الأسود ثاني كارثة طبيعية كبرى تضرب أوروبا خلال أواخر العصور الوسطى، ويقدر أنه قتل ما بين 30 إلى 60% من سكان القارة.
دفعت تلك الكوارث النخبة الأوروبية إلى التفكير ومن ثم إعادة النظر في نظامها السياسي والديني والاجتماعي.
أين المفر؟
لجؤوا إلى الدين كي يسعفهم بنظام يقيهم الظلم والظلام، ولكنهم عادوا بخفي حنين، رغم أن مارتن لوثر استطاع أن يحدث ثورة حقيقية عندما تحدى سلطة رجال الدين وشكك في قدرتهم على غفران الذنوب عن طريق بيع صكوك الغفران.
أقنع لوثر شريحة واسعة من الخواص والعوام بأن الكتاب المقدس وحده هو المصدر المركزي للسلطة الدينية، وأن الخلاص يتم من خلال الإيمان لا من خلال صكوك مشتراة تدخل أثمانها في كروش رجال الدين.
لجأ الأوروبيون المسيحيون إلى كتابهم المقدس علهم يجدون فيه حلولاً لمشكلاتهم الدينية والدنيوية، لكنهم لم يجدوا، لا في كتابهم المقدس، ولا في ماضيهم الديني ما يشفي الغليل.
وانطلقت النخبة الأوروبية الطامحة إلى الانعتاق الكامل من الظلم والقهر الممارس من قبل الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع والملكية تمعن النظر العقلي وتجتهد في إيجاد حل لمعضلة الحكم.
عصر التنوير
مهدت اللوثرية لحركات فكرية أوروبية كفرت بالكنيسة والملكية والإقطاع فيما يسمى عصر التنوير.
والتنوير حركة فكرية أوروبية انتشرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر جمعت الأفكار المتعلقة بالطبيعة، والعقل، والإنسانية في نظرة اكتسبت قبولًا واسعًا في الغرب، وكانت أهداف تلك العقلانية هي المعرفة، والحرية، والسعادة، وتمت من خلالها إعادة توجيه السياسة، والفلسفة، والعلوم، والاتصالات الأوروبية بشكل جذري.
الثرى والثريا
لو وجد الأوروبيون المسيحيون في دينهم ما يشفي شغفهم العلمي والعملي ما لجؤوا لغيره، ولآتت مراجعتهم لكتابهم المقدس أكلها، لكنهم وجدوا خرافات وخزعبلات وضلالات ومجافاة للعلم والمنطق في أسفارهم المقدسة المحرفة، ولذلك لم يكن أمامهم إلا نبذ دينهم بالكلية، واتهامه، هو وكل الأديان الأخرى بأنها محض خرافات.
الأمر عندنا مختلف لأسباب كثيرة، من بينها:
– أن كتابنا القرآن الكريم عصي على التحريف:
لا يستطيع مدع، كائناً من كان، أن يدعي أي نوعاً من التحريف في القرآن الكريم، المنقول بالتواتر، الشفوي والمكتوب، الذي يستحيل فيه التحريف، منذ أنزله الله تبارك وتعالى على عبده ورسوله.
– عدم وجود أي تصادم علمي أو منطقي مع النصوص الإسلامية:
وقد شهد بذلك كل من درس نصوص الكتاب العزيز والسُّنة النبوية المطهرة، من الأقدمين والمعاصرين، المسلمين والغربيين.
يقول العالم الفرنسي موريس بوكاي: «لم توجد حقيقة علمية واحدة تحدث عنها القرآن، وجاءت مخالفة للعلم»، ويضيف: «أدركت بعد دراسة أنّ القرآن لا يحتوي على أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث».
ولذلك، فنحن عندما نطبق الإسلام، في أي من مجالات الحياة، نطبق نظاماً لا يستطيع أحد التشكيك في نسبته إلى الله تعالى.
– أن العلمانية المفروضة علينا مرفوضة جماهيرياً:
على عكس الأوروبيين، ارتبط الدين في ذاكرة الجماهير المسلمة، عوامهم وخواصهم، بالعدل والحق ومقاومة الظلم، ومجتمعاتنا الإسلامية هي المجتمعات التي لا تعرف الكهنوت ولا الكهنة أو رجال الدين، وهي الوحيدة التي تسمي المتعاطين مع الدين تعليماً وتعلماً علماء وفقهاء، ولا تعترف لعالم بعلمه إلا إذا نأى بنفسه عن السلطة والسلطان، ووصف عالم الدين بأنه عالم سلطان يعتبر سُبة.
– أننا نمتلك تجربة بشرية ثرية في تطبيق الإسلام:
طبق النبي ﷺ، وهو بشر، الإسلام في حياته على نفسه وعلى المسلمين في دولة المدينة المنورة، التي حولت الفرقة والتناحر إلى اتحاد شمل كل جزيرة العرب، وحولت الضعف إلى قوة، وتقدمت بثبات لتقهر قوتي الظلم والقهر الكبريين في ذلك الزمان، لتحل محلهما قوة الإسلام العادل العالمية، في عهد الخلفاء الراشدين.
ودامت دولة الإسلام دواماً طويلاً، صحيح أنها واجهت فترات من المد والجذر، إلا أنها حافظت على الحد الأدنى من تطبيق النظام الإسلامي.
وظلت العلاقة بين الجماهير والإسلام كنظام حياة، علاقة حب وعشق للنظام الإسلامي، يطالبون دائماً بالاقتراب أكثر منه.
– النظام الإسلامي يتمتع بالشمول والمرونة:
ما عدا بعض الثوابت التي يمكن حصرها بسهولة، يتمتع النظام الإسلامي للحياة بمرونة تتوافق مع الواقع وتستجيب بعقلانية علمية لمتطلباته، فالمسلم متدين مرتبط ارتباطاً شديداً بالله وملتزم التزاماً صارماً بالحلال والحرام، ولكنه طبيعي يبيع ويشتري ويتزوج ويطلق، فلا رهبانية في الإسلام، ولا انقطاع عن الحياة الطبيعية التي يحياها البشر العاديون في كل زمان ومكان.
– نظام يتمتع بثبات ومناعة ذاتية:
المشرع في النظام الإسلامي هو الله تعالى، وقد ثبت عملياً أن شرع الله سبحانه هو الأصلح والأكثر برجماتية في التعامل مع معضلات الواقع، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، وكون الشرع الشريف من عند الله يعطيه ثباتاً من التغيير والتبديل والعبث اتباعاً للظن أو جرياً وراء الهوى.
ففي النظام الإسلامي لا يمكن أن يحدث ما حدث في النظام الأمريكي بالنسبة للخمر والكحوليات، فقد حظرت أمريكا الكحوليات في الفترة بين عامي 1920 – 1933م وعادت لإباحتها في ديسمبر 1933م بضغط من الجمهور.
ولو كان هذا تشريعاً من عند الله تعالى ما طالبت الجماهير بتغييره، ولكان هذا في مصلحة أمريكا، وفي مصلحة جماهيرها.
نحن على العكس من أوروبا، التي اضطرت اضطراراً لتبني العلمانية، لسنا مضطرين لها، ونتطلع إلى التخلص منها ونراها سبباً لكل ما نحياه من موبقات، ونتوق إلى تطبيق الإسلام كنظام حياة نرى فيه حلاً لكل ما نعاني من معضلات.