يأتي موسم الحج في هذا التوقيت من كل عام هجري ليُذكر الأمة بقيمتها وهويتها، ويجدد لها وسائل التعرف على نفسها، فيستنهض همتها، ويضبط بوصلتها، وينفخ فيها روحاً جديدة، تحمل معها نسائم الحياة الطيبة، فتنهض من جديد، لتكون خير أمة أخرجت للناس، كما خلقها الله تعالى، متحققة بوسطيتها، معتزة بعقيدتها وقيمها.
يُذكرنا الحج بأننا لسنا ألواناً، ولا أعلاماً، ولا أفخاذاً، ولا أحزاباً، ولكننا قبل ذلك كله أمة واحدة، أمة لا فضل لعربي فيها على عجمي، ولا لأبيض فيها على أسود إلا بالتقوى.
يُعلمنا الحج أن آلامنا نأسى لها جميعاً، وآمالنا نتطلع إليها جميعاً، وأننا أمة التراحم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
نحن أمة تعلمت قبل أن تبدأ مناسك الحج أن تُسقط أولاً كل دواعي التفاضل والتمايز، فليس ثمة أسماء، ولا ألقاب، ولا ألوان، وإنما هي العبودية لله وحده ظاهراً وباطناً، العبودية شعار المقبلين علي بيت الله الحرام.
حيث يعلمنا الحج أن أوسع أبواب الدخول إلى الله تعالى هو باب التحقق بالعبودية، فبقدر التسليم لأمره، والرضي بحكمه، والتبرؤ من كل حول وقوة إلا به، وكمال الافتقار إليه، والاستناد عليه، والشوق إليه، والمحبة له، بقدر كمال العبودية، والتي يتأهب بها السالك إلى ذلك النداء المقدس، والبشارة التي تنخلع منها قلوب العارفين خوفاً وطمعاً، حيث ورد في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه: «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ فإن اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا، ضَاحِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ».
يتعلم المسلمون من دروس الحج أن رابطة الإيمان أعظم رابطة بينهم على الإطلاق، فإنهم مهما اختلفت ألوانهم، وأنسابهم، ولغاتهم، فإنهم بالإيمان أوصل رحماً، وأقوى علاقة، وأوثق رابطة، فلم تجمعهم المصالح، وإنما جمعتهم كلمة التوحيد، ودلتهم على وجوب توحيد الكلمة.
لذا كان على الحاج أن يتحقق بالأخوة، ويعرف قيمتها ومكانتها، خاصة وهو يطوف بالبيت، ويرى حب الناس وتعظيمهم للكعبة المشرفة، فيتذكر أن حرمة المسلم أعظم عند الله منها، كما بين النبي صلي الله عليه وسلم، فيعود أصفي قلباً للمسلمين، وأشوق نفساً لخدمتهم، وأحرص قصداً على السعي في قضاء مصالحهم، وبذل النصح لهم، يعود وقد عاهد الله على التعبد الصادق في محراب الأخوة، تعاوناً وتكافلاً وتناصراً.
تُعلمنا مناسك الحج أن الأخلاق ثمرة العبادات، وأن العبادات إذا لم تُثمر أخلاقاً، دل ذلك على نقص في التحقق بها، أو خلل في المعتقد الدافع إليها، لأن العبادات الصحيحة، والعقيدة الصادقة، تنتج حتماً سلوكاً قويماً.
لذا كانت الجائزة الكبرى للحج موقوفة على من حسنت أخلاقه، وليست على مناسك الحج منفردة، ففي حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ».
يُعلمنا الحج أن أمة مُقاومة، إيجابية فاعلة، وأول ميادين المقاومة، ميدان مقاومة نوازع النفس وشهواتها، وتهذيبها والحد من غلوائها، فالحاج يترك ما ألفته نفسه من الثياب الفاخرة، وأنواع الطيب الفواحة، والأحذية الثمينة، وأغطية الرأس، ودلائل التقدير والترقي والرفعة، فإن نجح العبد في الأخذ بلجام نفسه، وألزمها الجادة، فقد قطع الشوط الأكبر نحو الفلاح، والترقي في مدارج السالكين.
وتستمر المقاومة بكبح جماح النفس وإرغامها على التخلي عن دواعي الانتقام ممن آذاها أو تعدى عليها، قال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيم) (فصلت: 35).
ثم تترقى تربية الأمة على المدافعة بأن يتجرأ الحاج على إعلان العداوة للشيطان، كنموذج تدريبي على ضرورة إعلان العداوة لشياطين الإنس والجن، وعدم التماهي مع باطلهم، ويتكرر رمز المعاداة مرات عدة في الرمي، ليكون المسلم أجرأ على العدو، وأقطع لحبائل المودة معه.
وتتعلم الأمة أن عدوها ليس ذلك المسلم الذي قد يختلف معها على منفعة هنا أو مصلحة هناك، أو وجهة نظر مغايرة، أو طريقة تفكير متباينة، وإنما عدوها الحقيقي هو ذاك العدو المتربص بدينها، المُبغض لوحدتها، الذي لا مجال لإرضائه إلا بأن تترك دينها، وتخون أمانتها، وتتنازل عن عقيدتها، لذا وجب عليها أن ترجم بكل وضوح، وتقاطع بلسان عربي مبين، كل فكرة أو مؤسسة أو دعوة أو فلسفة تروج لأن تعيش الأمة بمعزل عن دينها وقيمها، أو تؤدي إلى تقطيع أواصرها، ومولاة أعدائها، ومعاداة المسلمين، مثل أولئك الذين ينادون بوحدة إنسانية على دين جديد، شرَّعته الأهواء، ونسجت مناسكه الشياطين، وتولت الدعوة إليه مؤسسات التحريف والتجريف.
يُعلمنا الحج كمال الاستجابة للملك الحق سبحانه، بصرف النظر عن التفريعات الفلسفية، والأطروحات الكلامية، والقضايا المنطقية.
فلا معنى للطواف بأحجار البيت، وتقبيل الحجر الأسود، ورمي الأحجار بالحصى، والتفريق بين أحكام المبيت بأرض منى، ومدة البقاء بأرض عرفة، أعظم من الاستجابة لله تعالى، والتسليم لأمره، والانصياع لحكمه.
يعيدنا الحج إلى منطلقاتنا الأصيلة من جديد، ويصحح لنا النسب الشريف لديننا الحنيف، ويرسم لنا معالم الطريق الموصلة إليه، ويطرد عنا اليأس الذي يحلق فوق رؤوسنا، ويصل فينا ما انقطع، ويُحيي فينا الأمل في مستقبل أزهر، وحياة أطيب.
يُذكرنا الحج بأننا لسنا أمة ضائعة تائهة، ولكننا النور حين تتلاطم طبقات الظلام، وأمة القيم والفطرة حينما تنحرف الإنسانية عن منصات التكريم والإنعام، وأمة الإنسانية حينما تتنافس قوى الأرض أيها أكثر سفكاً للدماء، وتمنح الجوائز والمناصب لمن يهدرون حقوق الإنسان، وينتهكون عرضه، وينتهبون ماله، ويغتصبون مقدساته!
نحن أمة الفطرة النقية، والأخوة الراقية الحانية، والرحمة بالإنسان أياً كان جنسه ومعتقده، أمة العطاء والبناء، أمة الشهادة في الأرض والسماء.
فهل نتذكر سمات شخصيتنا، ومعالم رقينا، ومصادر اعتزازنا وفخرنا، لنعرف مدى حاجة العالم إلى النور الذي نحمله؟!
أرجو أن نرى آثار الحج بارزة في مجتمعاتنا، بنشر العدل في بلادنا، وتجديد الاعتزاز بعقيدتنا وقيمنا، وبالسعي الجاد لتحرير مقدساتنا، وحماية ثوابتنا، والتعالي على نوازع النفوس، والتخلص من أسر الشهوات، لنعود أمة التمكين، كما أراد رب العالمين.