أرهقت كثير من النساء أنفسهن في البحث عما يسمى وهماً بحقوق المرأة ومساواتها بالرجال، وأفنت بعضهن أعمارهن في إثبات ما تم إثباته عملياً من أن بعض النساء قد تتحول أفعالهن العادية النابعة من عاطفتها الأنثوية كزوجة، أو كأم إلى منسك يتعبد به المسلمون لربهم إلى يوم القيامة في فريضة لا يستطيعها إلا القليل من المسلمين؛ وهي فريضة الحج.
واتجهت الأنظار إلى الغرب لتقارن بين وضع المرأة هنا وهناك، وتبدل الحقائق وتزيف المفاهيم لتلقي بتبعة التخلف وهضم حقوق المرأة على الدين، وأنه علينا كمسلمين أن نطرح فكرة الدين جانباً إذا أردنا أن نكرم المرأة وننتزع حقوقها التي منعها المجتمع الذكوري المستوحى من الإسلام وموروثاته، دون أن تكلف عقلها مؤنة البحث والإنصاف لتعطي الإسلام حقه في كونه الضمانة الوحيدة للحفاظ على كرامة المرأة ومكانتها، بل وتفوقها في جملة تلك الحقوق في كثير من المواضع عن حقوق الرجل ليجعلها في موضع الفخار بدينها حين وضعها الدين مع الرجل جنباً إلى جنب في الثواب والعقاب والمسؤولية والتكليف والقدرة على اتخاذ القرار وتحمل تبعاته كإنسان كامل الأهلية عقلاً ووجداناً إلى جانب تكليفه بالمسؤولية عنها والإحسان إليها، بل وجعلها شرطاً لنيل رضا ربه حين يبرها كأم ويرعاها كزوجة ويحسن تربيتها كابنة ويصلها كأخت.
ففي المسار الإيماني، تقف امرأة فرعون على قمة السلم العقيدي، تبيع الدنيا بالجنة، وتختار جوار ربها وتهرب وهي الملكة التي تأمر فيستجاب لها، فيقول عنها رب العزة: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (التحريم: 11)، ويذكر في الكتاب ملكة اليمن التي تميزت بحكمتها ورجاحة عقلها فأسلمت مع سليمان، ويذكر كذلك مريم، ويذكر امرأة من أعظم النساء يرويها رب العزة في معرض قصة التوحيد والتسليم المطلق لأوامر الله عز وجل وهي قصة السيدة هاجر رضي الله عنها، زوج سيدنا إبراهيم وأم إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
الوجدان الصادق والحس الإيماني المطلق
تزوجها إبراهيم عليه السلام ولم يكن عنده ولد، ثم أنجبت له ولداً ذكراً، ثم هو يطلب منها الاستعداد للرحيل وهي المدللة عنده هي ووليدها ووحيده، أعدت المتاع واستعدت لرحلة لا تدري إلى أين، لكنها زوجة النبي المطيعة التي تثق بربها وبه، تحمل وليدها الرضيع مع ما استطاع الزوج حمله من متاع في سفر عبر صحراء مقفرة، تتعجب لكنها لا تسأل إلى أين، فكيف تسأل وصاحبها في الرحلة خليل الرحمن! وكيف تتوجس وهي في معية الله الذي تؤمن به! الزوج لا يتحدث، يتركها في عمق الصحراء ويدير ظهره ويرحل، تناديه فلا يجيب، لكنها بحسها الإيماني وعقيدتها الكبرى تسأل السؤال الوحيد الذي يجب أن يطمئنها جوابه: «آالله أمرك بهذا؟».
يجيبها الزوج المطمئن لأمر ربه بإشارة وبدعاء خالص لله: (إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).
فتعود لتعلمنا فن التسليم: «إذن لا يضيعنا».
«إذن لا يضيعنا»، ذلك هو اليقين الذي إذا سكن قلب المؤمن انطلق في الدنيا ليعمرها ويبنيها غير متوكل إلا على مولاه، وغير مبتغ بعمل إلا وجه مولاه، وهكذا حال المرأة المسلمة إذا توكلت على الله حق التوكل، وعاشت اليقين بكل معانيه، فهي لا تحب إلا له ولا تكره إلا فيه ولا تعطي إلا له ولا تمنع إلا لرضاه، وهي ليست حجر عثرة في طريق زوجها، خاصة تلك التي حباها الله عز وجل بزوج مجاهد داعية ومطلوب منها التضحية وحمل معظم الأعباء معه وإلى جانبه يداً بيد وقلباً بقلب.
حسن التوكل على الله
أثناء المحن والابتلاءات يجب ألا يعتمد المؤمن على إيمانه فقط أو دعائه، هكذا علمتنا جدتنا هاجر، فالإيمان يجب أن يصحبه العمل والأخذ بكافة الأسباب المتاحة، وترك النتائج كاملة على الله تعالى.
الطعام والماء أوشكا على النفاد، يجوع الرضيع ويصرخ ألماً وهي تعرف إلى من تلجأ، لكن لنتعلم كيف يكون اللجوء الحق إلى المولى، إنها لم تقعد تصلي وتدعو وتبكي لله أن يرفع ما بها من بلاء ويرزقها على أهمية كل هذا، وهنا يتجلى درس جديد تُعلمنا إياه امرأة «السعي مع اليقين»، عليك العمل وعلى الله النتيجة؛ تهرول بين جبلي الصفا والمروة، عاطفة الأم، والفطرة السليمة، وتحقيق سنن الله؛ فتنفجر زمزم.
تسعى بين جبلين عظيمين تبحث بلهفة، فيصير سعيها منسكاً يفعله الرجال والنساء، ولا تصح عمرة ولا حجاً إلا به، سبع مرات بلا يأس وفي نفس المسار، لتتحقق المعجزة في الشوط السابع دون ملل أو وهن، طالما بقي للإنسان أنفاس، فعليه أن يسعى، وطالما بقيت لديك قدرة فما زال لديك وسع، ينبع الماء من تحت أرجل الوليد، وقد يسأل سائل: ولماذا لم ينبع الماء مباشرة دون أن تتكبد تلك الآلام؟ ألم يكفها ما عانته؟ ليكون الجواب: وممن نتعلم إن لم يكن من هؤلاء الرجال ومثل تلك النساء.
ينبع الماء وتكون زمزم، صبرت وبذلت وتوكلت وأحسنت الظن فكانت النتيجة عين ماء تروي الحجيج إلى يوم القيامة، ماء اليقين الذي نبع نتيجة يقينها في الله، ويكون ماء زمزم لما شرب له تكريماً لامرأة آمنت بالله.
لا تنتهي قصة اليقين عند هذا الحد، فالاختبار الإيماني لا ينقضي ليرفع الله من شأن تلك المرأة المؤمنة والأسرة المحتسبة، يعود الأب الذي غاب كثيراً ليجد ابنه وقد صار فتى يانعاً تسر له العين ويبش له القلب، يجد ابنه وقد زينه الإيمان الذي ربته عليه أمه، يعود لا ليكافئ الأم التي صبرت واحتسبت ويعوض ابنه عن تلك الأيام التي عاشها بدونه وإنما لأمر جلل، إنه قد عاد ليذبح ابنه، ويأتيها إبليس اللعين، أدركي ابنك يا هاجر، لقد جن إبراهيم، إنه سيقتل ابنك، فتكون قصة يقين أخرى، تقوم امرأة لترجم إبليس اللعين وتسلم ابنها لأبيه ليذبحه، وليتحول فعل فعلته للمرة الثانية إلى شعيرة من شعائر الحج وهي الرجم يؤديها الحجيج كذلك كل عام تكريماً من الله عز وجل إلى تلك المرأة العجيبة، وتظهر حسن تربيتها لابنها حين يقول بمنتهى التسليم: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات: 102).
فأي مكانة بلغتها امرأة في العالم لتبلغ بعض ما بلغته النساء في ديننا؟! وأي عقل وأي إيمان بلغن ليكن لهن هذا الشأن العظيم، ولتسن السنن وتفرض الفرائض إكراما لفعلهن؟!
فالحمد لله فخراً وعزاً، ولبيك يا ربنا لبيك.